الانثروبولوجيا والخاصيَّة الفسيفسائيَّة للمجتمع العراقي

آراء 2023/09/14
...







 ثامر عباس


لطالما ظلت الدراسات السوسيولوجية والانثروبولوجية في الجامعات العراقية – رغم تنوع مواضيعها وتكاثر مصادرها - تتهيب الخوض في غمار بحث وتحليل الطبيعة الفسيفسائية للجماعات والمكونات العراقية المتشظية والمتصارعة؛ من حيث خصائص البنى التكوينية، وأنماط الثقافات الفرعية، ومضامين السرديات التاريخية، و محتوى التمثلات المخيالية. ومن ثم الكشف عن أدوار تلك البنى والأنساق والأنماط التي كانت – ولا تزال – من أبرز الأسباب المعيقة للسيرورات والديناميات من جهة، وإماطة اللثام عن التأثيرات والتداعيات والتبعات المحفزة لعوامل التخلف الاجتماعي – الاقتصادي، والتطرف الديني – المذهبي، والتعصب القومي – الاثني، والتخندق الثقافي – اللغوي، والتمترس الأيديولوجي – الحزبي من جهة أخرى. لا بل إن هناك من الباحثين والمؤرخين من يستهجن استخدام عبارة (الفسيفساء) لتوصيف طبيعة المجتمع العراقي، من منطلق حرصه (العاطفي) على استبعاد كل ما يوحي بـ (تعدد) الجماعات، و(تنوع) المكونات التي يتشكل منها النسيج الاجتماعي العراقي (الموحد)!. 

وإذا كانت الممنوعات السياسية والمحرمات الأيديولوجية في السابق قد حالت دون ظهور وتطور مثل هذه الدراسة، بدعاوى الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي والحيلولة دون تفكك روابطه وتشظي أواصره، ومن ثم الزعم بأن مكونات المجتمع العراقي، تعيش في أفضل حالات التجانس الثقافي والتناغم الوطني. فان تغير الظروف السياسية وتبدل الأوضاع الاجتماعية، وتحول الأنساق الثقافية وانزياح السياقات التاريخية في الوقت الحاضر، لم تعد تبيح أو تسمح للمتخصصين (باحثين وأكاديميين)، بالتعكز على مبررات ومسوغات باطلة لم يعد لها وجود، بقدر ما تحفّز المعنيين والمهتمين للخوض في غمار تلك المواضيع ذات الطبيعة (الحساسة) المؤمثلة في المخيال. بحيث يكون بمقدور كل من أتيح له امتلاك العدة المعرفية والمنهجية الغوص في أعماق تلك الممانعات الشخصية والممنوعات الاجتماعية، ليس فقط لكسر حواجز الخوف وتحطيم قيود الردع، التي طالما كبلت العقل وغلت الإرادة فحسب، وإنما لامتلاك القدرة على التحرر من كوابيسها النفسية، والتخلص من عواقبها السلوكية، وبالتالي الخروج بدراسات وتوصيات ذات جدوى على مختلف الصعد الإنسانية. 

ولعل سؤالا يطرح نفسه؛ ما الذي يجعل علم الانثروبولوجيا ضروريا إلى هذا الحدّ بالنسبة للمجتمعات، التي لا تزال تعاني من عواقب ماضيها السياسي والاجتماعي والثقافي الشائك والملتبس، لا سيما أن هناك علوما اجتماعية وإنسانية أخرى تشاطر هذا العلم اهتماماته وانشغالاته، كعلوم (علم الاجتماع والتاريخ والحضارة والدين والاقتصاد) على سبيل المثال لا الحصر؟!. وللإجابة على ذلك نقول؛ إن الانثروبولوجيا هي العلم، الذي يسعى للنبش في السيرورات التقليدية والتواضعات الاستاتيكية، التي طالما شكلت سمة بارزة من سمات تلك المجتمعات. أي بمعنى أنه (الانثروبولوجيا)، يسعى إلى تفكيك البنى العميقة لتلك المجتمعات، والحفر عميقا في طبقات وعيها الباطن، والتنقيب في طمى سيكولوجيتها المضمرة، وهو الأمر الذي دفع بالفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) - ضمن بحثه عن (اركيولوجيا العلوم الإنسانية) – إلى وصف الانثروبولوجيا بأنها (علم مضاد) للمألوف والمعيش، من منطلق كونها (ليست أقل عقلانية، بل لأنها تسير في الاتجاه المعاكس، وتحاول دائما (تفكيك) طبقات الإنسان التي تصر العلوم الإنسانية، كالاقتصاد، على صنعها). 

وعلى هذا الأساس تتكشف أمامنا ليس فقط أهمية هذا العلم وضرورته بالنسبة لهذا النمط من المجتمعات الإنسانية المتصدعة والمتشظية (الفسيفسائية)، على صعيد نتائج التحليل والتأويل التي يقدمها للباحث فحسب، وإنما تتوضح لنا خطورته على صعيد المقاربات المعرفية والمداخل المنهجية، التي يستلزمها لسبر أغوار المسكوت عنه في ميادين التاريخ المؤمثلة، والمحذور الاقتراب منه في مجالات الدين المؤسطرة، والممنوع القول فيه في مضامير السياسة المؤدلجة. بحيث إن التقليل من شأن هذا العلم والحيلولة دون تطوير مجالاته وتفعيل ميادينه – تحت شتى المزاعم السياسية والأيديولوجية – أفضيا إلى إعاقة العديد من الحقول المعرفية لجهة اجتراح التنظيرات النقدية واقتراح المنهجيات التفكيكية، التي من شأنها إيجاد الحلول واستنباط المعالجات لأغلب مشكلاتنا الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والثقافية والتاريخية والدينية، التي لم تبرح ضغوط تراكماتها، وتفاقم تداعاتها تضاعف من عوامل تهديد كيان دولتنا.