أنا وغائب طعمة فرمان

ثقافة 2023/09/14
...

 د. زهير ياسين شليبة

أنهيت كتابة أطروحتي عن الراحل غائب طعمة فرمان نهاية 1983 وناقشتها عام 1984 وأصدرتها بالعربية في 1996 قبل أن تكرّس له أي أطروحة دكتوراه خارج العراق، حسب علمنا في معهد الاستشراق، أما داخله فكان من الصعب علينا معرفة ذلك تماما! كنت أزور غائب طعمة فرمان، واستعير منه بعض الروايات المترجمة مثل «الصخب والعنف» و«موت بائع جوال». عادة ما كنا نتطرق إلى مختلف الموضوعات، بدأت الحديث معه عن «الصخب والعنف» في أحد لقاءاتنا، وهو أحياناً متحفظ، طرحت موضوع التأثر، وسألته فيما إذا كان فوكنر مهم بالنسبة إليه، بخاصة بعد أن ذكره لي هو بنفسه بأنه يقرأه ليطلع على أسلوبه، وأقرَّ بتأثير غوركي عليه وإعجابه بآرثر ميلر، وبالذات «موت بائع جوال».

وأتذكر أني قلت له، إن «ظلال على النافذة» تركز على تفكّك الأسرة مثل «الصخب والعنف»، وإنّها بوليفونية وتخصصُ فصلاً لكلِّ شخصية مثل رواية «الرجل الذي فقد ظله» بأربعة أجزاء و»شرق المتوسط»، التي قرأتها آنذاك. 

وهكذا فأنا كنتُ سلساً في حواري معه وبادرتُ بسؤاله عن إمكانية تأثره بوليم فوكنر، بالذات «الصخب والعنف»، وقد أكون حفزته عندما ذكرتُ له تأثيرها في أسلوب «الرجع البعيد» للراحل فؤاد التكرلي ليتكلم عن «ظلال على النافذة» روايته الأخيرة آنذاك.

اعتبرتُ أن مستوى «ظلال على النافذة» أقل من رواياته السابقة، ولم أكن متحمساً لها أو لمقارنتها بـ «الصخب والعنف»، أما تشابه الشخصيات فغير كافٍ وحده لإثبات التأثير. 

بل هناك من رأى أن «ظلال على النافذة» ضعيفة. أما «الرجع البعيد»، التي قرأناها معاً في الوقت نفسه، فقد أعجبَ بها فرمان نفسه وقال لي عنها: «فتح، كشف في الرواية»، فأمرُها آخر، إنّها رواية عميقة مكتوبة بلغة سرديّة فنيّة متنوّعة وثريّة يمكن مقارنتها بـ «أجواء» فوكنر إلى حدٍّ ما، بالذات فنيّاً، لكن هذا لا يعني أنه بالضرورة نتيجة للتأثر. طريقة السرد واللغة التحليليّة عند التكرلي فنيّة وعميقة يمكن مقارنتها بسارتر وتولستوي، لكنّها ليست غامضة أو معقدة كما هو الحال في «الصخب والعنف» حيث تحتاج إلى تركيز مضاعف لفهمها أكثر من دوستويفيسكي الذي أعجب فوكنر به ولم يخفِ تأثيرَه في

أسلوبه.  

يحتاج التأثير الحقيقي لنتاجٍ ما في آخر إلى إثبات أكاديمي من خلال تحليل النص وإدراك مغزاه الأدبي، ولا يكفي تشابه الشخصيات لأنّه يحدث أيضاً لتشابه الظروف الموضوعيّة لمكان السرد، بل إنّه أحياناً يُعدُّ تبسيطًا إذا لم يتم تحليله وفلسفته. وقد رفضَ التكرلي فكرة تأثير فوكنر في أعماله، لا سيما أنّه كتب بأسلوبه الفني الخاص به منذ بداياته الأولى، قد يكون قبل اطّلاعه عليه (فوكنر). 

ونفى غائب ط. فرمان الأمرَ نفسَه، من دون أن يخفي ردَّ فعله التلقائي الإيجابي بمجرد فكرة مقارنته بكاتب عالمي، لكنّه أيضاً رفضها وحاول تفنيدَها، وقال لي شخصياً أكثر من مرّةٍ إنه لم يستسغ أعمال فوكنر كلها، وبالذات «الصخب والعنف» التي قرأها بالإنجليزية قبل ترجمتها إلى العربيّة، وذكر لي فيما بعد أنّه أعجب قليلاً بروايته «ضوء في أغسطس». 

وأقولُ هنا إنَّ قراءة رواية معقدة مثل «الصخب والعنف» وفهمها بلغتها الأصلية الإنجليزية الاميركية، وبالذات بلهجة الجنوب تتطلب إتقانها والتمكّن منها والتعامل يوميّاً، مما لم يكن متوفراً تماماً لدى غائب فرمان كما

أتصور. 

الأميركان أنفسهم أيضاً عانوا من صعوبة «الصخب والعنف» واقترحوا على كاتبها طباعتها بألوان مختلفة لكي يسهلوا فهمها على القرّاء، لكن فوكنر رفض ذلك، وقامت دور النشر بهذا الأمر عام

2012.

ويكفي أن نقرأ عن تحديّات ترجمتها إلى اللغات الأخرى لندرك أهمية هذه الفكرة. 

لا بدَّ من فهم العمل واستيعابه من قبل المبدع وترسخه في عقله الباطني قبل أن يتأثر به

حقاً. 

وإن ترجمة كتاب مثل «الصخب والعنف» إلى العربية لا يمكن أن يتم من دون فقدان الكثير من جمالية لغته وبالذات لهجة الجنوب ومفردات الزنوج وفئات المجتمع

الأخرى. 

اِكتفيتُ في أطروحتي عن غائب ط. فرمان بإشارة مقتضبة إلى تأثره تكنيكياً مثل استخدام البوليفونيا في «خمسة أصوات» و»ظلال على النافذة» إذ كرّسَ لكل بطل فصلاً خاصاً به يتحدث عن نفسه. ولم أركز على مقارنة «ظلال» بـ «الصخب»، أو تأثرها بها لمجرد تشابه بعض شخصياتها.  

وقارنتُ نتاجات فرمان الأولى ببعض قصص غوركي، و «النخلة والجيران» بـ «فونتومارا» لإينازيو سيلوني، و»المخاض» بـ «موت بائع جوال» لآرثر ميلر، بناءً على أساس فلسفة المغزى الفني والأفكار. 

وقد يكون هنا من المفيد الإشارة إلى كتاب الفنان والصحفي الدكتور الراحل أحمد النعمان «غائب ط. فرمان، دار المدى»، الذي يضم عدة مقالات لي، وأني تعاونت معه وزودته بكل ما يفيده لإصداره، علماً انه كتب عن أطروحتي بعد مناقشتها مقالاً في جريدة الوطن الكويتية عام 1984.