ستراتيجيَّة روسيا القديمة الجديدة في أوكرانيا

قضايا عربية ودولية 2023/09/18
...

 أرمان محموديان
 ترجمة: أنيس الصفار

في شهر حزيران 2023، وبعد أربعة أشهر من التخطيط الدقيق، شنَّ الجيش الأوكراني هجومه المضاد المنتظر مركزاً على منطقتي “دونتسك” و”زابوريجيا”. كان هناك اختلاف واحد مهم بين هذه المواجهة مع الجيش الروسي والاشتباكات الأولى التي ابتدأت بها الحرب، ذلك أنَّ الروس كانوا قد تهيؤوا لها واستعدوا. ففي تباين واضح مع ما حدث في شباط 2022، عندما أطلق الكرملين عملية غزو مسرفة في الطموح نفّذت على عجل ثم سرعان ما انقلبت إلى انكفاءة عسكريَّة، ابتدع الجيش الروسي خطة ستراتيجية ناجعة لمواجهة التحركات الأوكرانية الهجومية. فبعد أن أدركت موسكو أنَّ آمالها في تحقيق نصر حاسم قد أدبرت، انتقلت إلى وضع توقعاتها للهجوم الأوكراني المضاد. ومع حلول تشرين الثاني 2022 كانت قد أسست خطاً دفاعياً شاملاً يمر عبر المناطق التي سيطرت عليها في جنوب وشرق أوكرانيا. يتضمن هذا الممر الدفاعي، وفق تقارير أجهزة الاستخبارات البريطانية، طبقات متتالية من الخنادق والأسلاك الشائكة والسواتر الترابية وأسنان التنين (وهي أهرامات رباعية الأوجه من الخرسانة المسلحة تستخدم لعرقلة تقدم الدبابات وناقلات الجند وإرغامها على السير في خطوط محددة تسهل على المدافعين عملية تدميرها- المترجم) والأهرامات المقطوعة، بحيث بلغت مساحات حقول الألغام الروسية المضادة للدروع والأفراد مجتمعة ما يعادل مساحة ولاية فلوريدا.
في ضوء الظروف الراهنة ينبغي للمرء أن يتأمل الأجندة الستراتيجية الكامنة وراء قرار روسيا استثمار كل هذه الموارد في بناء أحد أشد التحصينات الدفاعية سعة في العالم. الهدف الرئيس من هذه التحصينات، شأنها شأن معظم الخطوط الدفاعية، هو حتماً وبكل بساطة عرقلة تحركات القوات الأوكرانية مع الاحتفاظ بالسيطرة على الأراضي التي تحتلها حالياً. لكن بالنظر إلى الترامي الهائل لهذه الدفاعات، وكذلك الاشتباكات المتواصلة تصدياً للهجوم الأوكراني على خط مواجهة يقارب طوله 1000 كيلومتر، يصبح من الواضح أنَّ إدامة السيطرة على المناطق المحتلة بكاملها قد يكون تحدياً صعباً نظراً لمحدودية موارد موسكو والإجهادات المسلطة حالياً على قواتها العسكرية. لهذا السبب يحتمل أن تكون روسيا قد اختارت ستراتيجية دفاعية تتيح لقواتها فسحة من الوقت ومتسعاً لالتقاط أنفاسها قبل التركيز على أولويات أكثر تحديداً في السنة المقبلة.
ما دامت أوكرانيا قد شرعت بهجومها المضاد على امتداد مسرحي الحرب الجنوبي والشرقي فلابد إذن أن تكون أولى أولويات روسيا هي الدفاع عن مواقعها في إقليم “زابوريجيا” ذي الموقع الستراتيجي، لأنَّ تقدم القوات الأوكرانية في هذه المنطقة سوف يهدد بشكل مباشر الجسر الروسي البري الذي يصل “دونتسك” بشبه جزيرة القرم. الحفاظ على وحدة هذا الجسر البري يمثل أولوية قصوى بالنسبة لروسيا لأنَّ فقدانه سوف يؤدي إلى شطر القوات الروسية إلى كتلتين منفصلتين. عندئذ لن يكون أمام موسكو بد كي توصل إمدادات الذخيرة والتعزيزات إلى جبهة “خيرسون- القرم” من الاعتماد إما على الشحن بحراً أو النقل جواً أو بواسطة الأرتال البرية عبر جسر مضيق كيرتش (جسر القرم) وهي ثلاثة سبل ثبت أنها جميعاً معرضة للنيران الأوكرانية. في شهر نيسان 2022 أثبتت أوكرانيا قدرتها الهجومية على أسطول البحر الأسود الروسي من خلال نشرها صواريخ كروز المضادة للسفن من طراز “آر-360 نبتون” دون سرعة الصوت، وقد تسبب ذلك بغرق سفينة القيادة الروسية “موسكفا”. سلط هذا الحدث الضوء على نقاط الضعف لدى موسكو، لاسيما اذا أخذنا في الاعتبار أنَّ الدور الرئيس لموسكفا كان توفير الحماية الجوية الدفاعية للسفن الروسية. أضف إلى ذلك أنَّ سفينة القيادة نفسها كانت تحافظ على مسافة آمنة عن الساحل الأوكراني مقدارها 50 ميلاً بحرياً. وبما أنَّ المدى العملياتي لصواريخ نبتون الأوكرانية يتعدى 270 كيلومتراً، وأنَّ كييف قد نجحت مؤخراً في إرسال “طائرات مسيرة بحرية” لضرب الجسر الموصل بين البر الروسي وشبه جزيرة القرم، يصبح من الواضح أنَّ تأمين التجهيزات للقوات المرابطة في “خيرسون-القرم” سيصبح أمراً شديد الصعوبة إن لم يتوفر ممر بري مباشر بين دونتسك والقرم.
أما الهدف الرئيس الثاني للدفاع الروسي فمن المرجح أن يكون منع القوات الأوكرانية من عبور نهر الدنيبر، وبالذات عند نقطة الدلتا الضيقة قرب دخوله إلى البحر الأسود. فوتيرة جريان الدنيبر وعمقه يصلحان لاتخاذه “خندقاً طبيعياً”، وهذا يوفر للجيش الروسي مزايا دفاعية. من هنا تصبح المحافظة على هذا المانع الطبيعي ذات أهمية قصوى. أما إذا تمكنت القوات الأوكرانية من عبور النهر إلى منطقة خيرسون فسوف تضيق المنطقة العازلة بين شبه جزيرة القرم وأوكرانيا وهذا سيجعل شبه الجزيرة هدفاً مفتوحاً للقصف المدفعي أو حتى الغزو البري. ونتيجة للتقدم التدريجي المتواصل الذي أحرزته القوات الأوكرانية مؤخراً باتجاه الضفة الجنوبية لخيرسون تزايدت الأهمية الستراتيجية لهذه المنطقة، وأي تقدم إضافي في هذا الاتجاه قد يمنح أوكرانيا الميزة التكتيكية لتأسيس جبهة ثابتة على طول الضفة الجنوبية لنهر الدنيبر. من هذا المنطلق تصبح استعادة هذه المنطقة، أو على الأقل تضييق المسافة الفاصلة إلى أدنى حدودها، هدفاً أعلى للجيش الروسي.
هدف روسيا، المتمثل بإبقاء مصد مناطقي وقائي بين الأراضي التي احتلتها وباقي أوكرانيا، يمتد ليشمل أيضاً “دونتسك” و”لوهانسك” اللتين ضمهما الكرملين رسمياً في العام 2022. لذا يمثل إحكام السيطرة على هذه المناطق أهمية سايكولوجية كبرى بالنسبة للكرملين. على مدى عقد من الزمن تقريباً كانت روسيا تجند جهداً إعلامياً داخلياً ضخماً لتقديم تلك الأراضي على أنها أجزاء لا تتجزأ من “روسكي مير” أو “العالم الروسي”. فإذا ما حدث أدنى تغلغل أوكراني في العمق صوب “نوفوروسيا” (روسيا الجديدة) لن تكون نتيجته إثارة الشكوك في قلوب كثير من الروس بحكمة قيادتهم بشأن غزو أوكرانيا فقط، بل أيضاً بكفاءة قادتهم العسكريين. خسارة المناطق التي تم الاستيلاء عليها في العام 2014 باستخدام تكتيكات “المنطقة الرمادية” سوف تلحق ضرراً بالغاً بمعنويات الجنود والمدنيين الروس على حد سواء. لهذا السبب سيصب منع أوكرانيا من التقدم داخل المناطق التي احتلت منذ 2014 في صالح الهدفين معاً بالنسبة للكرملين، السياسي والعسكري. ضمن هذا السياق سيتعين على روسيا أن توفر الحماية للبلدات التي تمثل بوابات لوجستية لدونتسك ولوهانسك، مثل “بسكي” و”باخموت”.
من الممكن أن تكون لدى روسيا أولويات محددة وهي تتصدى للهجوم الأوكراني المضاد، لكن القيادة الروسية العليا تبقى رغم هذا متنبهة لأهمية الحفاظ على خط دفاعي متماسك نسبياً. بل إنَّ التحصينات الدفاعية التي أنشأتها روسيا في الواقع هي الأوسع رقعة وشمولاً في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، والسبب بالضبط هو إدراكها أنَّ قواتها يمكن أن تمنى بهزيمة قاسية إذا ما نجحت القوات الأوكرانية في تحقيق اختراق دون أن يكون لديها “عمق ستراتيجي” داخل أوكرانيا، مثلما حدث في شمال أوكرانيا في
خريف 2022.
أخيراً، وبمنأى عن النتائج العسكرية المباشرة، يبقى لدى روسيا هدف خفي.. هو كسب الوقت. فروسيا تهدف إلى صد القوات الأوكرانية من أجل توفير الوقت الذي تحتاج إليه صناعتها الدفاعية لإعادة بناء قدراتها الهجومية بعد الاستنزاف المؤثر الذي عانت منه جراء سوء القرار في الأيام الأولى من
الحرب.
لقد تمكنت روسيا تاريخياً من التغلب مراراً على خصوم أقوياء عن طريق استدراجهم للوقوع في شراك أحزمة دفاعية متعاقبة. هذا التكتيك ينهك معدات العدو وقدراته البشرية وبذلك يسمح لروسيا بأن تعيد تنظيم صفوفها وتعزيز قواها العسكرية، وقد أثبتت هذه الستراتيجية فعاليتها من خلال مواجهات مثل “حرب الشمال العظمى” (1700-1721) ضد شارلز الثاني عشر ملك السويد، وغزو نابليون في العام 1812، وعملية بارباروسا التي شنتها ألمانيا النازية عليها في 1941. في كل سيناريو مما ذكرنا كانت عملية الدفاع الروسية تعتمد الاستمرار في المناورة ثم الانتقال بنعومة إلى الهجوم.
في ضوء هذه الخلفية التاريخية يبدو من المقبول منطقياً أن يكون هدف روسيا في الصراع الحالي هو إنهاك القدرات العسكرية لأوكرانيا وفي الوقت نفسه توفير المتنفس الضروري لقواتها. وتشير التقارير الأخيرة إلى أنَّ موسكو قد توصلت إلى اتفاقية مع إيران لإنتاج 6000 طائرة مسيرة من طراز “شاهد” داخل روسيا، الأمر الذي يشي بعزم الكرملين على الاحتفاظ بقدرات هجومية نشطة. أكثر من هذا أنها يمكن أن تنزل ضربة قاسية بمعنويات الشعب الأوكراني لو تمكنت من وقف الهجوم الأوكراني المضاد الكبير ومنعته من التقدم خطوة أخرى. فالشارع الأوكراني، تحت وطأة ما يعانيه جراء الهجمات الصاروخية اليومية وضربات الطائرات المسيرة والضغط الاقتصادي والنزوح القسري، قد يتحرك لديه الميل لتقبل التسوية السياسية، والشيء ذاته قد يصيب المشاعر الغربية أيضاً. فإذا ما فشلت أوكرانيا في إحراز تقدم في هجومها المضاد قد يتراجع مستوى الدعم الشعبي لإرسال مساعدات عسكرية باهظة التكاليف إلى كييف، وهذا من شأنه تعزيز موقف السياسيين الداعين إلى الإحجام والتوقف. مثل هذه الحجج يمكن أن تؤدي إلى إعادة تقييم للدعم الغربي، أو حتى جعل بعض دول الناتو تضغط باتجاه اتفاقية سلام بشروط مواتية
لموسكو.
من الممكن تلخيص الموقف ببساطة على النحو التالي: إنَّ روسيا تلح في الضغط على مواردها العسكرية إلى حدود تتعدى قدراتها على الأمد الطويل لإثبات أنَّ أمل تحقيق أوكرانيا نصراً حاسماً ليس بالأمر الواقعي. وبينما تعاني قدرات روسيا العسكرية من أعباء هذا الاشتباك الذي طال أمده تصبح فكرة أن تتمخض هذه الجهود المضنية عن ثمرة في نهاية المطاف أبعد فأبعد منالاً.. ولكن من خلال الصمود لفترة أطول، وإلحاق خسائر غير متناسبة بالأوكرانيين كلما واصلوا هجومهم المضاد، يأمل الكرملين أن يتمكن من بلوغ أهدافه قبل وقوع المحذور. بقي على أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي أن يقدّرا إن كانت مساعيهم هذه ستؤتي أكلها وتعود عليهم بالنتيجة المتوخاة.

• عن مجلة “ذي ناشنال إنتريست”