خطاب نوبل

ثقافة 2023/09/20
...

اورهان باموق

ترجمة: علي ماجد

ذات يوم، أهداني والدي حقيبة صغيرة تتوسّطها مجموعةٌ ثمينةٌ من الكتب والمذكّرات الخاصّة به، والتي لم تر نورها.
بسخرية شفّافةٍ غير جارحةٍ، قال لي: “ أُريدُكَ أن تقرأهم بهدوء يا ولدي “ .
حدث هذا قبل موت والدي بسنتين. كُنّا نقفُ أنا ووالدي في مكتبتي، بين الكتب التي تُغلّفُها الرّفوف الواسعة. شعرتُ وكأنّهُ يحملُ ندباً كبيراً كما لو أنّهُ مجروحٌ في خاطره. تريّثنا قليلاً ثمَ تقدّم ببطء حيث موضع الحقيبة الصغيرة. وضع والدي الحقيبة في قطرٍ ضيّق لا يدركها الناظرون . يا لها من لحظة خجولة  تعلو محيّاهُ بشكلٍ كبير. لا أدري لماذا كان والدي خجولاً بهذا القدر! أي خجل عظيم هذا الذي يفور في وجوه آبائنا ثم يتساقط من الأعلى عبر قطرات ماء عسلية. بعد لحظاتٍ على وضعهِ الحقيبة بدأ الخجل يذوب في وجنتا، وأخذ الفرح يملأ خاطره بالمحبةِ ساخراً مني بسخرية لا يعرفُ منها إلّا القليل. نعم هي لحظات جميلة لكنها  مصيريّة! حيث ارتفعت فيها دقات القلوب.
مات والدي تاركاً لي حقيبتهُ السوداء مصحوبةً بذكرياتٍ طفوليّةٍ لا تُفارق أذهاني. كان يخطر على بالي كثيراً، وأنا جالس في مكتبتي، متأملاً في اللّحظة التي كنتُ أفتح فيها عيني مستيقظاً على أناقة جلدها المدبوغ بطريقةٍ رهيبةٍ. ثم رائحة الكولونيا الزكية ورائحة المدن المنبعثة من هناك وهو يجوب فيها عابراً  نحو المحطات الأنيقة، والتي تضجُّ بوجه العابرين والقادمين من الخلف، أقسى الأماكن الضّيّقة حتَّى خبط الأيادي في الزحام. يا للغرابة !  “ ليست لديّ القدرة على فتحها “ ، لرُبّما هذا الآمر قد يُثير استغراب البعض منّا !.
أنا على يقين بأنهم لا يدركون حمل أوراقها. أوراقٌ خفيةٌ، إلّا أنها ثقيلة بغموضها الذي يجعلُ عيوننا مفتوحة نحو الأمام مثل قطًّ برّيً لاهث. كان الثقلُ الكبير الذي يُزيّنُ هذه الحقيبة، هو ثقل أدبيٌّ عميق، والذي يتجلّى من نقطة بعيدة حيث تشرق الشمس الراسخة. صحيح كُنت غير قادر على فتح الحقيبة، لكنّني كُنتُ متضلعٌ بفحوى الأوراق التي تتكوّر سطورها في بطون الكتب..
عند مطلع عقد الخمسينيّات، شعر والدي بروح الشعر وهو يَتَدفّقُ ويدقُ في مفاصل روحه. مبكراً قام والدي بترجمة الفيلسوف والشاعر الفرنسي “بول فاليري “ إلى التركية، لكنَّ الغموض الجماهيري والانتهازيّة الكبيرة التي كانت تُخيّم على المشهد التركي، أحالتهُ إلى منعطفٍ بعيد.  ربما هذا هو أحد الأسباب التي أبعدته مبكراً، لكن يبقى السبب الأكثر صراحة وهو غنى المال والحياة الثريّة التي كان يَنعمُ فيها والدي بشكلٍ كبير. ممّا جعلهُ يفكر بعيداً، غير خاضع للشعر وأزمنته التي تغلي فيها عظيم المشقة والتحدّيات الكبيرة. هذا ما كُنتُ أشعر به تجاه والدي.  
إنَّ الرّدّ النفسيّ المربك الذي عشتهُ قبل فتحي للحقيبة ، كان نابعاً من الخوف وعدم الرضا بما ستؤولُ إليه الأمور في حال  قراءتي للكتب. كُنتُ خائفاً بشكلٍ لايوصف، فبعد حياةٍ ادبيّة استمرّت أكثر من خمسة وعشرين عاماً ، لم أرغب قط  في قراءة هذه الكتب التي أخشى منها  أن تقودني إلى ضفّةٍ وعرةٍ لا تتناسب مع طموحاتي ورغباتي الكبيرة في الأدب. كذلك لا أريد لهذه الكتب أن تكون مصدراً سيئاً يُبعدني عن والدي الذي كان لي دوماً محط فخرٍ وعتزازٍ.
هذا من جانبٍ، أما الجانب الآخر ربّما هو الخوف من المعرفة، من القوّة و العظمة الكبيرة التي يمتلكها أبي في الكتابة. إن الشعور بالعظمة والمتعة الكبيرة التي يُقدمها الآخر لك وأنت تقرأه، أخطر بكثير مما نتخيله. هذا الذي يستفزُّك في الكتابة قادر أن يجعل منك أداة ثانية له، وهذا ماكان يُخيفني بأضعاف لانهائيّة. أن تكتشف حكمة من تُحب أو تغوص في أبجدية عارف فذ، هذا يعني بأنك ستسقط  أول الشيء.
بمعنى أدق أن يكون المفكر  كاتباً جيداً لابد أن يحفر في نبعهُ الصافي الخاص لا نبع الآخرين؛ لأن النبع الخاص هو جوهرية  عوالم الأنسان الجوفية.  أنا عن نفسي عندما أرغب في الكتابة في اللّحظة التي تتعالى فيها طاقتي نحو شيء ما، لم أفكر في الروايات والكتب الفلسفية التي قرأتها في السابق، بل أُفكر في الإنسان الذي ينزوي في غرفةٍ هادئةٍ وعلى طاولة مستديرة يغرقُ في ذاته حتَّى خلاصه. بإمكان المرء أن يجلس وحيداً بالقرب من قنديل يرفرفُ كما لو أنّه فوق منارة عالية ويكتبُ كيفما يُريد، على الورق أو على آلة حاسوب ما. ماسكاً قلمهُ وهو ينظرُ من نافذته المشرعة ويطلُ على حديقة تلج بأوراقها المتساقطة، حيث الإنارة التي تُزين المكان هناك و الأطفال الذين يطقطقون بضحكاتهم المنبسطة على وجوهم. هذا الخلو الذي يجعلك تُراقب الآخرين بشكلِ مختلف، قادر على تحويل المشاهدة التي تُراود الإنسان في الحقيقة، وحتَّى الأحلام إلى دراما رهيبة لا تبصرها حتَّى أعين البعيدين. أنَّ التباينات العظيمة تأتي من الانفراد في الذات، كذلك من خلو النفس في لحظة صمتها المريب. نحنُ ككتاب نسبك الجمل كما لو انّها زجاج  لامع ، نضعها بهدوء تام متأملين في ملمسها الذي يفتح لنا أبواباً لا يتوغل فيها إلّا الحالمون.