أساس قرينة دستوريَّة التشريع
د. محمد يوسف السعدي
تتمتع التشريعات الصادرة بقرينة الدستوريَّة، ومفاد هذه القرينة أن الأصل هو سلامة كل ما يصدر عن السلطتين التشريعيَّة والتنفيذيَّة من قوانين ولوائح، ويجب على القاضي الدستوري عند تعرضه لدستوريَّة أي منهما أن يفترض صحة وسلامة النصوص المطعون في دستوريتها من أيَّة شبهة تنال من تمتعها بقرينة الدستوريَّة، فلا يقضي بعدم دستوريتها، ما لم يكن هناك تعارضٌ واضحٌ بين النصّ التشريعي المطعون فيه والدستور، بما لا يكون هناك أيَّة وسيلة يمكن من خلالها إزالة هذا التعارض على النحو الذي يتفق مع ما تقرره نصوص الدستور وإذا أمكن تفسير القانون على أكثر من وجه وكان بينها وجه يجعله متفقاً مع الدستور،
فعلى المحكمة أنْ تلتزمَ هذا الوجه في تفسير القانون ما دامت عباراته تحتمله من دون تكليف نفسها عناء البحث عن نيَّة المشرِّع والمدلول الذي أراد أنْ ينحله للتشريع، ويتعين على القاضي الدستوري اعتداداً بقرينة الدستوريَّة التي يتمتع بها القانون ومن أجل الحفاظ على استقرار النصوص التشريعيَّة أنْ يَحكُمَ بأنَّ النص القانوني محل المنازعة في دستوريته هو نصٌ دستوريٌّ ولا يَحكُم بعدم أهليته الدستوريَّة إلاّ إذا كانت الوقائع والأدلة قد بلغت حداً من الجديَّة والدقة بحيث لا تدع للقاضي شكَّا في عدم دستوريَّة القانون، فالرقابة على الدستوريَّة لا تستقيم موطئاً لإبطال نصوصٍ تشريعيَّة يمكن تأويلها - بمختلف طرق الدلالة المعتبرة - على وجه يعصمها من المخالفة الدستوريَّة المدَّعى بها، بل يجب - وبوصفها رقابةً متوازنةً لا يجوز التدخل بها إلاّ لضرورة مُلحّة تقتضيها - أنْ تكونَ مبررةً بدواعيها؛ كي لا يكون اللجوء إليها اندفاعاً، أو الإعراض عنها تراخياً، فالقضاء الدستوري في نطاق الرقابة التي يمارسها يقوم على الانطلاق من مراعاة قرينة الدستوريَّة لممصلحة النص، فيتجنب الحُكم بعدم الدستوريَّة إلاّ لضرورة ملجئة، وهي تكون كذلك كلما كانت النصوص - المطعون فيها أو المحالة إليها لتقرير مدى مطابقتها للدستور - عصيَّة على تفسير يوائم بين مضمونها وأحكام الدستور.
ولا يمكن اعتبار الاستناد إلى قرينة دستوريَّة التشريع مسألةً عابرة لا تجد لها من الأسس ما يبرر اعتمادها والأخذ بها، وإنَّما على النقيض من ذلك هناك من الأسس والمبررات ما يحتّم ضرورة الاعتراف بهذه القرينة والعمل بموجبها كقيدٍ يَرِدُ على سلطة القاضي الدستوري. ويمكن ردُّ أساس تمتع التشريع بقرينة الدستوريَّة إلى طائفتين رئيسيتين، الأولى: اقتناع القاضي الدستوري بصحة التشريع، ويمكن القول بأنَّ الاقتناع هو حالة ذهنيَّة يمتاز بها القاضي؛ كونه ذا خاصيَّة لتفاعل ضمير القاضي عند تقديره للأمور، فالاقتناع يعبّر عن ذاتيَّة وشخصيَّة القاضي بعد أنْ يُكَوّن اقتناعه بكل حريَّة ويُصبح لهذا الاقتناع سيادة كاملة وتامَّة بحيث لا يُسأل عندها القاضي عن الطريقة التي وصل بواسطتها إلى تكوين قناعته، ولا عن الأسباب التي أدّت إلى القناعة؛ ونتيجة ذلك يصبح القاضي في تكوين قناعته هذه غيرَ خاضعٍ إلى رقابة المحكمة العليا، وإنَّما يكون خاضعاً إلى ضميره فقط.
وتتكون عقيدة القاضي الدستوري واقتناعه بصحة الأعمال التشريعيَّة انطلاقاً من اقتناعه بطريقة التمثيل الديمقراطي الذي أولى ممثلي الأمة لتلك السلطة التي أناط بها الدستور ممارسة وظيفة التشريع في الدولة، فكلما كان التمثيل الديمقراطي سليماً كانت القواعد القانونيَّة الصادرةَ متمتعة بقرينة السلامة والصحة. ويتمحور هذا الأساس- في واقع الحال- حول الواقع العملي للإجراءات المتبعة في سن القواعد القانونيَّة في الدولة، ومدى تمتّع تلك الإجراءات وكيفيَّة إقرارها في النظم الدستوريَّة بالسمة الديمقرارطيَّة، فكلما كانت الجهات المحتصة بإقرار القواعد القانونيَّة ناتجةً عن الإرادة الشعبيَّة بأسلوبٍ ديمقراطي كانت تلك القواعد أكثر تعبيراً عن الإرادة العامَّة للأمة.
وفي ظل قيام التمثيل الديمقراطي للشعب على أُسسٍ قانونيَّة سليمة يقتنع بها القاضي الدستوري، ويتمُّ سنّ التشريعات من قبل الأعضاء المختارين بشكلٍ ديمقراطي سليم، فإنَّ هذا يجعل هذه التشريعات متمتعةً بقرينة الدستوريَّة من منظور القاضي الدستوري، إذ تسهمُ هذه الضوابط في تكوين عقديته بصحة الأعمال التشريعيَّة الصادرة عن هذه السلطة التي أناط بها الدستور مهمة التشريع.
الثانية: المبدأ الديمقراطي المستند إلى فكرة المساواة (المساواة السياسيَّة)، وهذا الأساس مُستَمدٌ من طبيعة النظام الديمقراطي، ويعرف هذا الأساس بمبدأ المساواة السياسيَّة وتطبيقاته العمليَّة في النظم الديمقراطيَّة، والمقصود بالمساواة السياسيَّة هو تساوي الأفراد في مناقشة الشؤون العامَّة للجماعة، سواءً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ويصعب إنكار العلاقة المتبادلة بين مبدأ المساواة السياسيَّة ومبدأ الديمقراطيَّة، فلا يمكن الحديث عن الديمقراطيَّة ما لم يواكبها تطبيقٌ حقيقيٌّ وفعليٌّ لمبدأ المساواة السياسيَّة، وبالمقابل يؤدي غياب مبدأ الديمقراطيَّة إلى إفراغ مبدأ المساواة السياسيَّة من مضمونه الحقيقي، ومن ثم فإنَّ الديمقراطيَّة تتجسد في النطاق الذي يؤمنُ فيه الأفراد بوجودها، ويكون لهم دورٌ فاعلٌ على قدم المساواة في مناقشة الشؤون العامَّة للجماعة، سواء تمَّ هذا النقاش بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة. ويُعَدُّ القانون إحدى ثمار المشاركة السياسيَّة للأفراد من خلال اختيارهم لأعضاء السلطة التشريعيَّة؛ فالقانون هو محصلة مسارٍ سياسيٍ أساسه المساواة بين المشاركين في صنعه، بينما يكون دور القاضي الفصل في المنازعات سواء بالحُكم على القانون بالصحة أو الحُكم بالقانون لتسوية باقي المنازعات، ففي الحالة الأولى يقوم القاضي بتقرير مدى دستوريَّة التشريع الذي يتمتعُ بحسب الأصل العام بقرينة الدستوريَّة، بينما يقوم القاضي في الحالة الثانية بالفصل في المنازعات المعروضة عليه من خلال تطبيق نصّ القانون على الوقائع المعروضة عليه، وصولاً إلى حلٍ حاسمٍ لموضوع المنازعة. وتشير انعكاسات مبدأ المساواة السياسيَّة على صعيد القواعد الدستوريَّة والتشريعيَّة إلى أنَّه يجب احترام هذا المبدأ من قبل السلطة التي تخضع لهذه القاعدة القانونيَّة العليا؛ فالسلطة التي تضع الدستور يجب أنْ تحترم القواعد والمبادئ القانونيَّة العليا التي تؤكد على المساواة، والسلطة التشريعيَّة يجب أنْ تحترمَ القاعدة القانونيَّة الدستوريَّة المنصوص عليها في الدستور، والتي تؤكد على مبدأ المساواة في ما تضعه من تشريعات.
ويقتضي ضمانُ فعاليَّة الحماية الدستوريَّة للحريات العامَّة ومبدأ المساواة بشكلٍ خاصٍ التحققَ من سلامة صدور قاعدة القانون وفق حدودها الدستوريَّة واتفاقها مع المبادئ الدستوريَّة التي ينصُّ عليها الدستور وفي مقدمتها مبدأ المساواة؛ إذ يرى فقهاء القانون الدستوري أنَّ سمو الدستور يوجب على المشرِّع الالتزام به في تشريعاته، وأنْ يتجنب الانحراف عنه في ما له من سلطات تقديريَّة، فإذا صدر تشريعٌ يتعارضُ مع نصوص الدستور ومبادئه كان التشريع باطلاً؛ لِما ينطوي عليه من انحرافٍ في استعمال السلطة التشريعيَّة. كما يُمكن ردُّ أساس تمتّع التشريع بقرينة الدستوريَّة إلى طائفة ثالثة متعددة طُرحت في هذا الشأن لتبرير اعتمادها والارتكان إليها كالوضع الظاهر، وإسباغ الحماية على إجراءات السلطة المختصة بالتشريع، وتضييق سبل التحايل على القانون.
حيث يمكن القول بأنَّ أساس قرينة الدستوريَّة لمصلحة التشريع هو الوضع الظاهر؛ فالوضع الظاهر يفيد بأنَّه تمَّت مراعاة الإجراءات اللازمة لإصدار القانون من الناحية الشكليَّة والموضوعيَّة، وأنَّ هذه الإجراءات صحيحة طالما لم يكن هناك دليلٌ على بطلانها، ومن ثم؛ إذا أصدر المشرّع قانوناً ما فإنَّ الأصل أنَّ هذا القانون قد تمَّ على النحو الذي تطلّبه الدستور، وما دام الإجراء قد تمَّ على هذا النحو فإنَّه يستحق الحماية القانونيَّة التي تدفع عنه سبل الإلغاء، احتراماً للوضع الظاهر وعلى من يدّعي خلاف هذا الأصل أو خلاف الوضع الظاهر أنْ يُقيمَ الدليلَ على ما يدّعيه، وأن يُثبت أنَّ هذا الإجراء لم يتمّ، فإذا تمكّن من إثبات ذلك، فإنَّ قرينة الصحة تُصبح حينها على غير أساس، ويصبح الوضع الظاهر باطلاً وغير جديرٍ بالحماية القانونيَّة التي تضفيها عليه قرينة الصحة.
كما يمكن القول: إنَّ أساس هذه القرينة هو إضفاء نوعٍ من الحماية القانونيَّة على الإجراءات التي اتُّخذت من السلطات المختصة لسنِّ التشريع، وعدم ترك هذه الإجراءات نهباً لادّعاءات الخصوم ببطلانها، وبما يترتب عليه تعذّر الفصل في الدعوى وهدم جميع الإجراءات المبنيَّة على الإجراء المدّعى ببطلانه، إلى جانب تخفيف العبء عن كاهل قضاة المحكمة الدستوريَّة وأعوانهم، وتفرّغهم للقيام بالفصل في الطعون الدستوريَّة الحقيقيَّة والجدّيَّة، وتضييق سبل التحايل على القانون بادّعاء بطلان القانون المطلوب تطبيقه في النزاع الموضوعي، ورغبةً منهم في إطالة أمد النزاع وتأخير الفصل في الدعوى تحقيقاً لرغباتهم خلافاً للقانون.