فنٌّ يبقى وآخر يزول

ثقافة 2023/09/20
...

سامر المشعل

من مظاهر الأغنية الحديثة أنها وقتيَّةٌ ولا تمكث بالذاكرة، تطرق أسماعنا لأيامٍ معدودةٍ بفعل البث الإعلاني المتكرر، ثم تسقط من الذاكرة، لتقفز أغنية أخرى وهكذا مثل تقافز الكرات.
هذه الحالة تعود بنا إلى الوراء لاستذكار جيل الرواد الذين كانت تعني لهم الأغنية، ولادةً جديدةً، فتولد نتيجة مخاضاتٍ ومعايشةٍ بين الشاعر والملحن والمطرب.. فيكون بينهم نقاشٌ وجدلٌ وتغييرٌ وتعديلٌ لبعض الجمل والمفردات.
يصوغ الملحن الأغنية وفق قياسات صوت المطرب، مستنطقًا مناطق الجمال في صوته، ويتولى الملحن تحفيظ المطرب على اللحن إلى أن يتشبع به ويصبح جاهزًا لتسجيل الأغنية، فتخرج الأغنية متكاملةً، بحيث لا نتصور أن أغنية " ياحريمة " ممكن أن يؤديها مطربٌ آخر بالحلاوة نفسها التي قدمها حسين نعمة، وأغنية "أعزاز" ممكن أن يؤديها مطربٌ آخر بنفس جمال وقوة أداء الفنان ياس خضر، وأن أغنية "اتنه اتنه" ممكن أن يؤديها صوتٌ آخر غير المطرب فاضل عواد.. إلخ.
كانت الأغنية تعني مسؤوليَّةً إخلاقيَّةً وثقافيَّةً وذوقيةً وكان الشاعر والملحن والمطرب يشتركون في احترام الذوق العام ويجتهدون في سبيل الارتقاء به.
وبعض الأغاني يستغرق تلحينها وقتٌ طويلٌ ربّما عدة شهور وأحيانا عدة سنوات.. كي يتمكن من تلحينها، فأغنية "غريبة من بعد عينج يا يمه " ظلت عند الملحن عباس جميل عدة سنوات إلى أن أشعلت جذوة تلحينها المطربة زهور حسين بعد وفاة والدتها، التي خلفت في نفسها براكين من الحزن والألم على فراقها، فطلبتُ من عباس جميل أغنية تخرج غيوم الكآبة والحنين من داخلها، ولم تستطع زهور حسين إكمال تسجيل الأغنية، إلا بعد عدة محاولاتٍ، لأنها كانت تقطع التسجيل بالبكاء.. لتخرج هذه الأغنية الكبيرة، وهي تجسد معاني الحب والحنين للأم كلامًا ولحنًا وأداءً.
في إحدى المرات طرد الملحن طالب القره غولي الفنان ياس خضر من الاستوديو أثناء تسجيل إحدى الاغاني، والسبب أن المطرب نسيَّ أحد المقاطع الغنائيَّة، فاستغرب الفنان الكبير ياس خضر، وردَّ عليه "أبو شوقي هو مقطع نسيته الآن أقراه وأتذكره، أجابه القره غولي بحزم، اريدك أن تأتي حافظا الكلام، كي تغني بإحساس".
أما الآن فالملحن يرسل الأغنية عبر الواتساب إلى المغني، وفي أحسن الأحوال يخيّر المغني بين عدة ألحان ليختار ما يناسبه بمعنى "يستنكي" ما يفيده من بضاعة الملحن.
الأغنية تكشف عن ثقافة ووعي صاحبها، فكيف اهتدى ناظم الغزالي إلى قصيدة "أي شيء في العيد" للشاعر ايليا ابو ماضي، والمطربة عفيفة اسكندر إلى قصيدة " ياعاقد الحاجبيني" للشاعر الأخطل الصغير، والمطرب رياض احمد لقصيدة "يا أعدل الناس" للمتنبي.. غير الإطلاع والقراءة.. وبالتالي الأغنية هي انعكاسٌ لثقافة ووعي المطرب والجمهور الذي
يغني له.