عبد الزهرة محمد الهنداوي
لا يمكن أن نتحدث عن تعدادٍ سكانيّ مستجيب للمعايير العالمية، ما لم يتصف بالشمول، أي انه لا يستثني أيَّ بقعةٍ من بقاء البلد، قصبة كانت أم قرية، مرورًا بالناحية والقضاء ثم المحافظة، والحديث هنا يرتبط بإجراء التعداد العام للسكان والمساكن في العراق، فعملية تنفيذه ليست سهلة، - كما يُخيل للبعض-، إنما يحتاج- فضلا عن الشمول- إلى اعداد وتدريب اعداد كبيرة من العدادين والفرق الميدانية التي قد تصل اعدادهم إلى مايقارب الـ(150) الف عداد، وهؤلاء بحاجة إلى تدريبٍ مكثفٍ يؤهلهم إلى إمكانية تنفيذ المهمة على وجه الدقة والمهنية المطلوبة، ليس هذا وحسب، ففي ظل التحول الرقمي الهائل والسرعة الصاروخيَّة التي يشهدها العالم في الدخول إلى عالم الرقمنة والتكنولوجيا الحديثة، لم يعد منطقيًّا البقاء على الاساليب القديمة في تنفيذ التعداد، بل إن واقع الحال يستدعي، اللحاق بالركب العالمي عبر استخدام التقنيات الحديثة في هذه العملية، لضمان دقةٍ وموثوقيَّة وحياديَّة وعلميَّة ومهنيَّة وعلمية البيانات، وسرعة الوصول اليها، لكي تحقق الهدف التنموي المنشود، وأن يُنفذ التعداد إلكترونيا، فعلينا أن نتحدث عن توفير ما لا يقل عن (150) ألف جهازٍ لوحي (تابليت)، بمواصفاتٍ خاصة، واستخدام تطبيقاتٍ برامجيَّة عاليَّة الجودة وشديدة التحصين، ومضمونة النتائج، وهذه ليست سهلة، ماليًا وفنيًا
وتقنيًا.
وما زلنا نتحدث عن الصعوبات التي تواجه تنفيذ التعداد، ولماذا وصفته الأمم المتحدة بأنه من أصعب المهام وأضخمها، وذلك لارتباطه بالاستجابة من قبل الناس، ففي ظل الانفتاح وسقوف الحريات العالية، وتأثّر المجتمع بالضخ الاعلامي، المحرّض، وتصوير المشهد بنحوٍ سوداوي، فإنَّ الناس قد لا يتفاعلون إيجابيًّا مع العدادين، وإن كانت التجارب الميدانيَّة تشي بغير ذلك، إلّا أن أمرًا مثل هذا يُعدُّ ذا أولويَّةٍ أولى، حيث يتطلب الإعداد لحملات توعويّةٍ صخمةٍ لتثقيف الجمهور، وبيان الهدف الحقيقي من التعداد، ودوره في خدمة الناس مستقبلا، وحملةٌ كهذه تتطلب مشاركة وسائل الاعلام ومؤسسات الدولة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني، والفعاليات الدينيَّة والاجتماعيَّة والرياضيَّة والفنيَّة والثقافيَّة، للتعريف والتثقيف بأهمية التعداد، ومثل هذه الحملة الإعلاميَّة، ستسهم كثيرًا في خلق أجواءٍ إيجابيَّة بين الأسرة والعدّاد، اذ سيقوم العدّادون بالمرور على جميع البيوت والمساكن في أنحاء البلد كافة، من أعالي الجبال إلى أقاصي الأهوار، من دون استثناء، لجمع المعلومات عن أفراد الأسر العراقيَّة، والخروج ببياناتٍ مهمةٍ تغطّي المشهد العراقي برمته، ذلك لأن البلد بات يواجه فجوةً حادةً في البيانات المرتبطة بخصائص الحياة بجميع أبعادها، بياناتٌ يمكن أن تسهم على نحو الدقة في عدالة توزيع الثروات، وأن تحقق خطط التنمية أهدافها بجوانبها المختلفة، في مجال الصحة والتعليم والعمل والسكن والاقتصاد والخدمات، والبنى التحتية.. إلخ
واذا كان العراق قد خسر فرصة إجراء تعدادٍ سكاني طيلة العشرين عامًّا الماضية، لظروفٍ وعوامل كثيرة، أمنيَّة وسياسيَّة وماليَّة، فعليه ألّا يفرّط بالفرصة المتاحة الآن، وتوفر الكثير من العوامل الداعمة لهذا المشروع العملاق، من بينها وجودُ مزاجٍ سياسيٍّ إيجابي، بعد تذويب وتطمين المخاوف لدى بعض الجهات، وقد أدرك الجميع أن التعداد للتنمية دون سواها، وكذلك وجود تخصيصاتٍ ماليَّةٍ ضمن الموازنة الثلاثية، فضلا عن الاستقرار الأمني الذي يشهده العراق، وما ورد في البرنامج الحكومي من تأكيدٍ واضحٍ وصريحٍ على إجراء التعداد، وإصدار مجلس الوزراء حزمةٍ من القرارات المهمة للتمكين من إجراء التعداد قبل نهاية العام المقبل 2024.