رعد أطياف
يتبجّح الكثير من عبّاد الطغاة بحيلٍ وجدالاتٍ فارغةٍ للدفاع عن الديكتاتور. فالعبد مهدور الكرامة، منزوع الضمير، لقد خسر ثلاثة أرباع روحه وهو يسبّح بحمد الديكتاتور. فليس من الصدفة من شيءٍ أن معدومي الضمير والإحساس يتصدرون قائمة المدافعين عن الطغاة. عن ماذا يدافعون عن صدام حسين، مثلاً، ولأجل مَنْ يتلذّذون بعبوديتهم وخطاباتهم الخرقاء الجوفاء؟ أنّها الانجازات! ما عليك سوى تشييد الطرق والجسور وتعزز أمنك الغذائي- وهي أمورٌ أساسيَّة على أي حال- حتى تنهمر عليك خطابات المديح والثناء بأقصى درجات العبودية. هذه هي حجة المطبّلين لصدام حسين: أنه حقق «إنجازات» للشعب العراقي. عادة ما نحدد هؤلاء «الردّاحين» بفئاتٍ ميسورةٍ كانت منتفعةً اقتصادياً ومنغمسةً بالمنافع الشخصية. وهذا الزعم بعيد كل البعد؛ ذلك أن معظم المطبّلين هم من فئة المتبرّعين بالعبودية الطوعية، ولا دخل للمنافع الشخصية بهذه المسألة الخطيرة، باستثناء فئات قليلة كانت منتفعة حقاً، وهذه الظاهرة، ظاهرة الانتفاع، تصاحب كل نظام ديكتاتوري تنتشر فيه المحسوبيات، ويزداد فيه عدد الوصوليين والانتهازيين. المهم في الأمر، لو كان حجم الانجازات الماديَّة هو من يحدد أهمية هذا الزعيم أو ذاك، لفاز الكثير من طغاة العالم بجائزة أفضل رئيس. لقد كانت إنجازات هتلر أفضل بما لا يقاس بأي ديكتاتور عربي. مؤسس دولة مصر الحديثة ومهندسها محمد علي لم يحظَ بكلمة مديحٍ واحدةٍ من المؤرخ المصري الشهير عبد الرحمن الجبرتي، حيث قال في حق محمد علي «لو أوتي شيئاً من العدل لكان من ملوك التاريخ الكبار بل من أكبرهم». فلم تشفع كل هذه الإنجازات الهائلة التي حققها محمد علي، مهندس مصدر ومؤسس دولتها الحديثة، لأنّه، وهنا بيت القصيد، لم يكن عادلاً، حسب المؤرخ الجبرتي. وبالتالي أن هدر كرامة الإنسان، والحط من شأنه، وإذلاله، وقمع حريته، لهي أكبر جريمةٍ على وجه الأرض. فعن أي إنجاز يتحدث به العبيد؟ إن الإنجاز الأول الذي يرفع زعماء العالم إلى مصاف العظماء، ليس بناء الطرق والجسور، أي ليس الإنجازات المادية، وإنما رفعة الإنسان وصيانة حريته وكرامته، فإن فقد إحداهن يغدو كما الضواري. لذا، أعتقد أن أخطر المجتمعات هي تلك المجتمعات التي ذاقت الأمرّين من القهر السياسي، التي تم قهرها وإخضاعها لإرادة الديكتاتور بحجة الحفاظ على الأمن، وتحت شعار «لا صوت يعلو على صوت المعركة» زهقت الكثير من الأرواح، وهدرت الكثير من الكرامة، وقمعت جميع الحريات، بحجة تحقيق الأمن. والمعادلة هنا غريبة، كما يصفها الراحل هادي العلوي، وهي لماذا تتزامن الوطنية والقمع على حد سواء؟! لكي تكون وطنياً ينبغي عليك أن تكون ديكتاتوراً دموياً. وهذه من أعجب الظواهر السياسيَّة التي شهدتها منطقتنا يوم كان يحكمها طغاة أمثال صدام حسين، وكانت الدماء تسيل، والسجون تضجُّ بالمعارضين السياسيين، وكان كل ذلك مُبَرَّرَاً تحت يافطة «الأمن الوطني». يبدو أن قاموسنا السياسي ما زال يضجُّ بهذه السفسطة والمغالطات حول معاييرنا تجاه الزعيم السياسي، ويبدو كذلك أننا ابتلعنا الطعم منذ عقود، وصدقنا أسطورة أولوية الأمن على الحريات. كما لو أنها منّة يقدما الديكتاتور؛ إما الأمن أو الحرية ولكم أن تختاروا! وفي الحقيقة ابتليت بعض الفئات الاجتماعيَّة بهذا الوباء القاتل، أعني به عبادة الطغاة؛ فصدام حسين الذي أهلكنا بحربٍ عبثيّةٍ دامت ثماني سنوات، ثم أعقبها بحركةٍ غبية، لا يقدم عليها أيُّ عاقلٍ في هذا العالم، وهي غزو الكويت، نجد حتى هذه اللحظة من يبرر له. فما الحل؟ اعتقد أن الحل في الممارسة السياسيَّة والاجتماعيَّة المستمرة على حرية التفكير لكي يتضح للناس حِيَل الديكتاتور وتُشفى من هذا الوباء الخطير.