أُكرُ الصابونِ الملوَّنةِ

ثقافة 2023/09/23
...

  د. فارس عزيز المدرس


1

على ضفةِ النهر؛ حيثُ نسماتُ الربيع؛ والقمرُ الساهرُ في أحضانِ السماءِ؛ تسامرتْ هيپاتيا مع تلاميذها؛ وهم يستعرِضون بعضاً مِن أقوالِها، وما حلّ بها؛ حين كانت تطوف البلدان. قال التلاميذُ:

 رأيناك تجْنحين أيّتها العزيزة إلى الإشارةِ والترميز؛ حين يحتاج الأمرُ إلى شرحٍ وتوسّيع، وتميلينَ أحياناً إلى العمُقِ والغموض؛ في وقتٍ ينتظر منك سامعوكِ التبسيطَ والبيَان. أمَّا مناهضوكِ فيتهمُونك بأنك تنالينَ مِما أسمَوها عالياتِ الأفكار؛ بطرحِها على الناس. على أننا لم نُلقِ بالاً لِما يقولون؛ إذ مَللنا ميوعةَ الأفكارِ وتعقيدَ النظريات؛ وما فيها مِن خطابٍ مُراوغ؛ حتى صار الكثيرُ مِن المعارفَ سُخاماً أسودَ؛ ينضح مِن مناخيرَ غشيَها الوَرَمُ، فساعِدينا يا معلمة لنجتازَ مَفاوزَ الظلام.

2

  كان المساءُ يوشك على بسطِ أجنحته؛ والسماءُ تنثُّ رذاذَها في الأرجاء؛ فسارَعت الأطيارُ قُبيلَ المَغيب إلى أعالي الشجر؛ حيث توارت الشمسُ خلف الشفَقِ عند مُنعرج النهر، وهيپاتيا مازالت تسمع إلى تلاميذها؛ ثم أطرقت قليلاً تنكتُ بعصاها الأرض: 

- قد ضقتُ ذرعاً بشحومِ المعرفةِ أيَّها الأحبة؛ فلمَاذا عليّ أنْ أجترَّ الألفاظَ كما تفعل البقراتُ المُسنَّة!. وقبل أنْ أحملَ مِعولي أحطّمُ به الأصنامَ سيكون لِزاماً عليَّ أنْ أهدُمَ الكثير َمِن زنازينَ شادها فلاسفةُ الإخراس ونخاسي الفكر والثقافة؛ تسيرُ في ركابِهم جحافل مِن الأفاقين.

سأكرر قولي وأشدّدُ على استبدالِ العقلِ الأداتي الخاضع للإرادة بالعقلِ الحيَوي؛ هذا الذي ينبثق مِن داخل كلِّ نظام، لكنّه لا يكون عبداً لأيِّ نظام. إنه عقلٌ إثباتيٌّ لا يناهض أيَّ نزعةٍ ابتداءً؛ بل يعدُّها وجهةَ نظرٍ الخطأُ فيها مقبولٌ، والتعديلُ عليها ورادٌ؛ ما لم يكن قصداً مخبوءاً، أو إهمالاً مُتعمَّداً يفضي إلى تقاطعٍ مع الحقيقة. 

 لقد تغلغلَ التجهيلُ في مسامِّ المجتمعاتِ؛ ويلزمُني أنْ تُسمعَ صرختي، لكنْ إذا تجاوزتُ كلماتي؛ وعمِلتُ على تعقيد المعرفة بأخيلةٍ منطقية، ولم أتحرَّ عن جدواها فقد عزلتُها عن الناس؛ فأيُّ شي قدمتُ لهم!. فلتصبروا قليلاً يا الأحبابُ؛ حتى تكتمِل أناشيدي، وقرِّبوا قلوبكم مني؛ وستدركون لِمَ تهابون الظلام.

 انتبهوا إلى خُطَّاف سُنارتي الذهبية... إنَّه يغوي أدقَّ العلَقاتِ؛ ويخترق أشداقَ أشدّ الوحوش شراسةً. انظروا إليه وقد رميته في بحرِ المعرفة؛ أتخطَّف به الأفكارَ التي أصابتْ بالعقمِ الحياةَ. ولا أريدُ أنْ تتبَّعوا كلَّ الأماكن التي مرّرتُ بها؛ إذ لا أرضى بإنهاكِ أذهانَكم بتصوّرات خشِنة؛ بل بأفكارٍ وهّاجةٍ؛ تتطاير كأُكرِ الصابون الملونةِ؛ تتهادى في الهواء، حين تنفخها شفاهُ الأطفالِ؛ فيتقافزون خلفها ضاحكين. 

حين يشتدّ عودُكُم فلَكم أنْ تتفوّقوا عليَّ، وأكون لكم التلميذ؛ وذلك حُبوري وتلك سعادتي، فلا تضطروني إلى الأخذ بكم إلى مَفاوزَ أنهكتْ قلبي وفكرتي. إنني أرمي إليكم بتفاحاتٍ يانعاتٍ؛ فاقضموها بفرحٍ؛ فهي ناضجةٌ تُغري الآكلين، ثمَّ اخلدوا إلى الراحة، وحين يطلع الفجرُ استعدّوا للحظاتِ الشُّروع، أمّا أنا فسأتأمّل وجهَ القمرِ، وقد لا تسْنحُ لي سانحةٌ أخرى أُناجي فيها ذاتي؛ فقد تقاربَ عليَّ الزمانُ أيُّها الأحباب.

3

أتسْألُ أيَّها الصاحبُ عن سرِّ الغموض يحيط بي؟ وعن الصمْتِ يخيِّمُ على محيايَ ؟ إذن ما زلتَ بعيداً عن أغواري. أو كلَّما حسِبتُ أنكم سلكْتم دروبَ المعرفةِ وأدركتم ما خفِيَ من أسرار تهاويْتم في دهاليز الشك!. أمَا تساءلتم عمّا قد ينطويَ تحت أجنحةِ الظلام مِن جمالٍ، وما قد يسكنُ خلفَها مِن أحوال؟. ألا يخيمُ الليلُ فيتوهّمُ الحيارى أنهم سائرون في قَفْر أو أدغال!، حتى إذا طلعَ النهارُ، وشقَّتْ حِرابُ النورِ حُجبَ الظلامِ ضحِكتْ أساريرُهم؛ وهم يرونَ الينابيعَ والبساتين النضِرة والأطيار. على أنَّ ما يتكشّفُ أحياناً عن جُنْح الظلام يحمِل مِن المآسي والخراب ما يصدِّع كلّ

 قلب.

أقول لكم: ليس هناك شيءٌ أسمُه ظُلمة؛ إلا في نطاقِ باصرتِنا؛ بينما الأشياءُ هي هي؛ بمعزل عن النورِ والعُتمة. وستبقى أحكامُنا عن الأشياء مرتهنةً بقدرةِ عيونِنا على رؤيتها. وإذا قُدّر لعيونِنا أنْ تبصرَ في الظلام؛ لَمَا بقي له مِن معنى، ولو أنَّ للعقولِ أنْ ترى الحقائق - التي تغيبُها ضحالةُ الفهمِ والأنانية - لمَا تشكَّل شكُّ العقولِ.

ما سرُّ خوفِنا مِن العُتمةِ يا أصدقاء إلا اضطرابُنا أمام المجهول، لأنَّنا نَخاف الأبوابَ المقفلةِ. أفلا يرتابُ الناسُ بعضُهم مِن بعض؛ لأنّهم لا يعرفون ما تنطوي عليه سرائرُهم؛ وما تكنُّهُ الصدور. كذلك يخافُ الإنسانُ كلَّ غورٍ عميق؛ خوفَه مِن الظُلمة. 

  أنا ذلك الغورُ، أنا غابةٌ تحفُّ بها الأشجارُ الهرِمةُ؛ تصدَّعتْ جذوعُها وتهدَّلت أغصانُها؛ حتى أنَّ الحِلكةَ خيَّمتْ على ما حولهَا؛ فلا تراها إلا مُتشِحةً بسَواد. هذا ما تراه عيناكَ أيَّها الصديق. لكنْ هلّا اقتحمتَ عُتمتي وكشفتَ عن غموضي؟، أم تريدُ الجلوسَ متربِّعاً؛ لتتكشفَ لك أسراري!. 

لجْ عُتمتي أيَّها الصديق؛ وسترى وراء حِلكةِ أشجاري حدائقَ وينابيعَ تحفُّ بها الورودُ والزنابقُ. وستجد أشواقاً وآمالاً، وستَشهدُ ضحِكاتٍ يعانُقها مِن المرح ما يُلهب كلَّ شعور. وسترى حول أزاهيري أشواكاً قاسيات؛ فليحذرْ مَن لا يجيد السيرَ بين الأزاهير الشائكة.

4

تذكرتُ ما قالته لي عجوزٌ أوتني يوماً؛ والبردُ ينْخرُ عظامي؛ في ليلةٍ ماطرة؛ اختنقتْ فيها مزاريبُ الشتاء؛ فهي تنشُجُ حتى الصباح وتعوِل، وبقيتُ أتسمَّعُ إلى أقاصيصها، وما احتفرَ في ذكرياتِها مِن أشواقٍ؛ عفا عليها الزمنُ. قالت العجوزُ:

قالت العجوز: أتريدين يا هيپا أنْ ترَي ما نحسبه نوراً كيف ينغمس في قعْر الظلام!. غالباً ما كذب الشعراءُ؛ ونحن واقعون في لُعَبِهم؛ حتى تنقضي عقودُ أعمارِنا وقد انتهينا إلى لا شيء. ها أنا ذي قصيدةٌ ترنَّم بها ذاتَ يومٍ الشعراءُ؛ أفيسرُّكِ أنْ ترَيْ بقايا شعراءِ 

مُتمثلةً بعجوز؟. 

أنظري إليَّ مَلياً إذن. أمَا كان الشعراءُ يتغنَّونَ بما تراءى لهم مِن جمالٍ فيَّ ومن دلالِ؛ يتلألأُ في جسدِ فتاة؛ فأين الشعراءُ مني الآن 

إذن!. ألا يعني هذا يا معلمة أنَّ ما يُبدونه مِن تمجيدٍ للمرأة غالباً لا يعدو سوى إقبالٍ على المرأةِ الجسد، دون أنْ تلمَس كلماتُهم جوهرَها؟. ألا يعني هذا أنَّ المرأةَ في أعينِ أكثر الشعراء والعشّاق ما هي إلا جسدٌ خَصيب!. حتى إذا ما ذهبتْ نضارُتها وفقدت خاصِّيتها كأنثى، يدير الشعراءُ والعُشاق ظهورَهم لها؟!. وإلَّا فلمَ لا يتغزلُ الشعراءُ بعجوز!. 

سكنتْ العجوز برهة؛ ثم عادت تقول: خذيها مني هديةً أيتها المنفرِدة، فهي آخر ما يتمخَّض عن إناث الحقائق. فقلتُ: وهل تلِدُ الحقائقُ إناثاً ؟! لكنَّ العجوزَ لم تلقِ بالاً لتهكّمي؛ واقتربتْ مني تهمس بكلماتٍ روَّعتْ قلبي، فحاولتُ وضع كفِّي على فمِها، ولولا ما اعتراني مِن خجلٍ لوليتُ فِراراً مِما سمعتُ؛ إلا أنني تصنَّعتُ عدمَ الاكتراث، وقلتُ لها بمزاح: هل قُدِّرَ على هيپا أنْ ينتهيَ بها المطافُ تصغي فيه إلى تخاريفِ عجوز!.

5

 حين أتيتُ الحياةَ كنتُ أكثرَ صلةً بأحوالِها؛ إذ أبصرتُ بساطتَها وعمقها، وهي مِن الجمالِ ما يبهج النفوس، لكنْ حين قرأتُ ما كتَبه المؤرخون وما تعاطاه جلادوا الشعوب، وما نطقتْ به أفواهُ لصوصِ الفضائل؛ خُيِّلَ إليَّ أنه عالمٌ  قائمٌ على افتراضات. وما قصَم ظهري بعد ذلك سوى ما سمعتُ مِن مقالات المتثاقفين وتُجار الأديان يلوثون نهرَ الحياة بأفكارٍ وأقوالٍ تبدو في ظاهرِها ذات جلالٍ؛ غير أنّ ما كشفَ عنه الزمنُ بيَّنَ لي أنَّ كثيراً مِن تلك الأفكار ما هي إلا ثرثراتٌ وأورام طوَّعوا لها الكلماتِ، وراحوا يلعبون بأفهامِ الناس ويسوقونهم وراء أخيلةٍ مليئةٍ بالعجزِ والكذب؛ ليبتزُّوا بها مشاعرهم. 

كَم ارتاع قلبي إذ رأيتُ كثيراً مِن الفلاسفةِ يصنِّعون للناس حقائقَ ما هي بحقائق؛ بل تعقيداتٌ يغرقون بها أخيلةَ سامِعيهم، وإنَّ تعقيداتِ أفكارهم توازي حجمَ فراغِها ولا جدواها، وإنّها تعقيداتٌ توغِل في عزلِ المعرفةِ عن الناس؛ وتتيه في أخيلةٍ منطقية، وموضوعاتٍ يتهرّبون بها مِن المشكلاتِ الحقيقية للحياةِ؛ بل أنَّ منهم مَن يتحدَّثون في نظرياتهم عن أحوالٍ افتراضيةٍ يُسقطونها على الواقع، وحين ينْفرُ الناس مِن أفكارهم يتّهمونهم بالسطحية ولا يلتفتون إلى أنَّ مُخرجاتِ بحوثِهم لا تتطابقُ حتى مع 

مُدخلاتِها.

6

  إنَّ في الجماهيرِ مِن الخَدَرِ ما يساوي طيبتها؛ بل وسذاجتِها، وهي لا تعرفُ مِن الشرور إلا حدِّها الأدنى. غير أنَّ المحرِّضين الذي يمتلكون سُبل التأثير عليها هم مَن يحفِّزون فيها سلوكَ الأنانية والأحقاد، مِن بعد أنْ يلهِبوا مشاعرَها بأضواء الكلمات الملونة، فهل رأيتم أيها الأصدقاء أين يقبعُ الظلام. 

فيما مضى كان الكهنةُ متواطئين مع طغاةِ الملوك لوضع السلاسل في أعناق الشعوب؛ أمَّا في هذا الزمن الأخير فقد طلعَ على الناس قديسون كذبَةٌ، وطغاةٌ جُدُدٌ؛ يتشرَّب أحدَهم الشرُّ كما تتشربُ الأسفنجةُ القيحَ، ويتلبّسه القبحُ من رأسِه حتى أخمصَ قدَميه. وهو ذا العقلُ الحيوي يسير بين الأنقاضِ؛ مَسيْحاً حاملاً في المنفى صليبَه.

إنه لأمرٌ مُرّوعٌ أنْ تعلنوا كلَّ هذا أمامَ شُذاذ المعرفة؛ وعبيد النَسق من الذين حازوا شهاداتِهم في غفلة من الزمن، حينها لن تكونوا في أعينِهم سوى مارقين؛ لكنَّ مَن يقتحِمُ لابدَّ له مِن باصرةِ الصقْر يحلِّق في الأعالي؛ ليرى ما يصطخِبُ في الأغوار، لذا أهيبُ بكم أنْ تكونوا واضِحيْ الفكرِ؛ مُرهفي الشعور، ولا تنخدعوا بما قد يبدو لكم أضواءً تتلألأ.

7

تذكرتُ أنْ أخبرَكم بما نطقتْ به العجوزُ؛ حين حدَّثتني عن التهتُّكِ. لقد اقتربتْ مني وأمسكتْ بتلابيبي بيدينِ مُرتجفتين، وهمَستْ في أذني قائلةً: ما زال أهلُ الفضائل يتحدَّثون عن التهتّكِ والعِفة، لكني أقولُ يا معلمة: فتِّشْي عن تهتّكِ الكلماتِ؛ ففي تهتُّكها يكمُن كلُّ بؤس. هذا ما قالته العجوز.

دهِش التلاميذُ مِن حديثِ المعلِّمة وسألوها: لعلّكِ تعنينَ بالعجوز حياتَنا الشائخة!، فتبسّمتْ هيپا وقلت: لعلِّي. ثم مضتْ.