جواد علي كسار
معارض الكتاب هي دالَّةٌ على حركة الكتاب وحياته، والكتاب بنفسه هو دالَّةٌ على القراءة في مداها وسعتها، والقراءة هي دالَّةٌ من أبرز دوال المعرفة.
أعترف أنَّ أغلب ما كتبته عن الكتاب والقراءة في مثل هذه المناسبات، كان يصدر من موقعٍ دفاعي، يرى الكتاب محاصراً بتحدّيات تدفع به إلى دائرة الخطر، وتزيح القراءة من ورائه عن مركزها المعرفي، بفعل الطغيان الهائل لوسائل التواصل الرقمي، وتناسلها المرعب.
بيد أني اليوم أكتب عن الكتاب، ومن ورائه المعرفة، من موقع الهجوم ليس إنكاراً لضغط وسائل التواصل، وطغيانها القارّي على عقول الناس واهتماماتهم، ولا جهلاً بعوالم السطحيَّة والتفاهة والإغواء، وهي تغطي مساحات واسعة من وعي الناس وعقولهم وحياتهم واهتماماتهم؛ بل أفعل ذلك من موقع تبدّل الرؤية.
فما أراه الآن إلى حدّ اليقين، أنَّ المعرفة (والكتاب من دالاتها الكبرى) هي العقل المحرّك (الداينمو) للحياة كلها، ولوجودنا في هذه الحياة. فما من شيء حتى التفاهة نفسها، إلا وله ارتباطٌ سببيٌّ علّي بالمعرفة وتالياً بالكتاب نفسه، بحيث تستحيل الحياة ويمتنع وجودنا فيها، لحظة انقطاع ارتباطنا بالحبل السري للوجود الذي تمثله المعرفة، وما أروع الإمام أمير المؤمنين، وهو يقرّر هذه الصلة السببيَّة العضويَّة بين الوجود والمعرفة: «ما من حركة إلا وأنت محتاجٌ فيها إلى معرفة» والحركة هي تدفقٌ مستمرٌ للحياة والوجود، من حيّز القوة إلى
الفعل!
لنتفحص الحياة من حولنا بكل ما لها وعليها وبمظاهرها الوجوديَّة كافة؛ فهل ترانا نعثر على مفردةٍ أو حقلٍ أو شيء يشذّ عن المعرفة؛ وكذا في دائرة العلوم الطبيعيَّة والإنسانيَّة؟ أبداً، ما ثمة إمكان لأي شيء من دون معرفة، يصح ذلك على الإنسان والدولة والمجتمع، كما ينطبق على الثقافة والسياسة والاقتصاد، وعلى الإعلام ووسائل التواصل؛ وكلّ شيء.
أجل، للمعرفة قوانينها منها، أن: «يسير العلم ينفي كثير الجهل» كما في حديث علوي آخر، ومن ثم فإنَّ العلم والمعرفة كانا دائماً بؤراً صغيرة، تستهلك أعمارَ فئة قليلة من الناس، لكنَّ الحياة لا تدوم إلا بثمار عقولهم.
لذلك كله لم أعد أعبأ كثيراً لقلة من يقرأ، أو لتلك التحديات التي يواجهها الكتاب، ما دامت المعرفة مستمرة في خطّها العميق، وأهل المعرفة من الناس أجمعين المكدودون بعقولهم بل بحياتهم من أجل الآخرين، هم كالملح في الطعام، يكفي منه اليسير، وهم يدركون حق الإدراك أنَّ العلم هو عقل الوجود وروحه النابضة، وأنَّ: «ليس لسلطان العلم زوال» وأنَّ بـ «العلم تكون الحياة»!.