الكتلة النقديَّة ومخاطر التوقعات التضخميَّة

آراء 2023/09/24
...

 د. حامد رحيم

قفزت الكتلة النقديَّة إلى (116) ترليون دينار بعد أن كانت (93) ترليون دينار في آخر التصريحات الرسميَّة، والأمر هذا مثيرٌ للقلق باعتبار أن الاقتصاد العراقي مختلٌ هيكليٌّ، ومن ثم المؤشرات تعطي في بعض الأحيان إشاراتٍ مغايرةً لما تمليه النظريَّة الاقتصاديَّة، فالنظريَّة تشير إلى أن النمو الاقتصادي في المجال الحقيقي للنشاط الاقتصادي، يوجب أن تقابله زيادة في حجم الكتلة النقديَّة المصدّرة من قبل البنك المركزي لمسايرة الإنتاج الخدمي والسلعي، لتجنب حالة الانكماش الاقتصادي
وبالوقت ذاته أن تكون العمليَّة متوازنةً بالشكل الذي يمنع أن تزداد تلك الكتلة النقديَّة، بشكلٍ يفوق الإنتاج الحقيقي، مما يدفع الاقتصاد إلى التضخم، وهذا واجب السياسة النقديَّة عبر مجسّات البنك المركزي في إيجاد تلك العمليَّة المتوازنة.
ببساطة شديدة، عند التقاط إشارات التضخم من قبل البنوك المركزية فإنها تعمد إلى سياسةٍ متشددةٍ عبر رفع قيمة المثبت الاسمي (سعر الفائدة)، مع رفع نسب الاحتياطي القانوني لتقويض قدرة البنوك على منح القروض، وتوسعة عمليات السوق المفتوحة، عبر طرح سنداتٍ طويلة الأجل، لغرض سحب النقد من التداول والعكس صحيح عند التوقعات الانكماشيَّة. هذا في ظل أي نشاط اقتصادي يسير بشكلٍ اعتيادي غير مرتبك.
إنَّ حالة النمو الاقتصادي لها ضريبةٌ تضخميَّة، فعند توسع الاقتصاد وارتفاع القدرة الاستيعابية لسوق العمل وارتفاع الإنتاج كمًا ونوعًا وما يقابله من توسع في حجم الكتلة النقديَّة، وهي ضرورة لمسايرة النمو، لذلك يقترن النمو الاقتصادي في الغالب بسياساتٍ نقديَّةٍ متشددة، لغرض إيجاد حالة التوازن المشار إليها
 آنفا.
وهنا نقطة التعقيد في الاقتصاد العراقي المختل هيكليا والمثيرة للمخاوف، فالنمو الاقتصادي بدلالاته المنصوص عليها في النظريَّة والمشار إلى بعضها آنفا، لا تنطبق على ما يخص من تحسناتٍ في نسب الناتج المحلي في العراق، فالقصة وفقا لخارطة المساهمة القطاعيَّة في الناتج تعود في جزئها الأعظم إلى أسعار النفط وحتى الكميَّة المنتجة منه لا تؤثر كثيرا باعتبار أن العراق (تابع) في سياسته الإنتاجيَّة إلى قرارات السعوديَّة بشكلٍ أساس، والتي تعمل على تقييد الإنتاج النفطي لمنظمة أوبك بالتنسيق مع روسيا، مما يعني أن لا نمو اقتصاديًّا حقيقيًّا يحصل في الناتج، والاشكالية هنا في أن تقلبات الأسعار واتجاهها إلى الانخفاض، وهو أمرٌ واردٌ جدا، يجعل الاقتصاد بسبب التدفقات الماليَّة عرضة إلى مخاطر كبيرة.
وبما أن الأدوات غير المباشرة (سعر الفائدة والاحتياطي القانوني وعمليات السوق المفتوحة) للبنك المركزي هي غير فاعلة نتيجة لعوامل الاختلال الهيكلي، كون نسبة ما يحتفظ به الجهاز المصرفي من النقد المصدر لا تتجاوز (12 %) فقط والباقي نقد في التداول، إضافة إلى ضعف التوجهات الاستثمارية، ناهيك عن تخلّف التداول المالي بالأوراق المالية، فلا عمليات للسوق المفتوحة في هذا المجال ممكن التعويل عليها في إيجاد الأثر النقدي.
والنقطة الحرجة تكمن هنا، فضعف الفاعلية لتلك الأدوات، تعني لا وسيلة بيد البنك المركزي للتعامل مع التوقعات التضخميَّة، نعم ممكن أن يتعامل مع واقع حال التضخم عبر سياسة سعر الصرف وإجراءات العقيم، وهذا غير التوقعات التضخميَّة، أي أنَّ السياسَة النقديَّة تكون بشكلٍ آنيٍّ وتظهر على أنها ردود أفعال لا تقوم على استشراف المستقبل، كما يحصل في أي اقتصاد يسير بشكل طبيعي، وهذا الامر يرفع من مخاطر من نوعٍ خاصٍ يمثل استنزاف الاحتياطيات من الدولار لدى البنك المركزي لمواجهة ارتفاع الطلب الداخلي على السلع والخدمات والقادمة أغلبها من الاستيراد.
وكل ذلك يقود إلى نسفٍ للجهود التنموية المفترض أن يتوجه لها الاقتصاد العراقي وترسيخٍ أكثر إلى التخلف الاقتصادي، الذي صار مرضًا مزمنًا رافق النشاط الاقتصادي، ولن ننتفع من الإيرادات الدولاريَّة الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط.
الملخص: إن أسعار النفط متقلبة وهي الركيزة الأساسيَّة، لتحسن الناتج المحلي والكتلة النقديَّة متضخمة باعتبارها متغيرًا تابعًا للإنفاق الحكومي القادم من ارتفاع أسعار النفط، مما يرفع كلفة التعقيم النقدي عبر استخدام سياسة تثبيت سعر الصرف وفي النهاية قيمة العملة مهددة
بالانخفاض.