محمد صابر عبيد
ينقسم الموروث الأدبيّ العربيّ بحسب الدراسات المعياريَّة المتداولة في تاريخ الأدب على شعر ونثر، وظل الشعر رهينة شكل تقليدي ضاغط على الذائقة العربيّة قروناً طويلة تمتد إلى زمن غير محدود قبل ظهور الإسلام، منحازاً إلى أعرافه القارّة الثابتة على وزن وقافية وما حولهما، مانعاً بروز أشكال جديدة تتحرّر من هذه المعايير التي ترجّح صوتها غالباً على أي صوت آخر مجاوِر، حتى ولدت قصيدة التفعيلة بعد عملية قيصرية امتدت قروناً طويلة ولم تتمكن من تغيير المزاج الشعري القديم على النحو المطلوب، وهو مزاج بطيء يستجيب لذائقة كسلى ترفض التغيير بينما كل شيء من حولها يتغيّر بسرعة عجيبة.
جاءت قصيدة النثر لتعلن ثورة كبيرة على هذا الإرث الشعريّ الجبّار الرافض لأيّ عمليّة تغيير، واجتهدت على الرغم من ضعف أسلحتها في مقاومة جيوش من الأوزان والقوافي وجّهت أسلحتها نحو قصيدة النثر لاستئصالها واجتثاثها، لكنّها ظلّت تقاوم وستنجح في نهاية المطاف مهما طالت المعركة؛ إذ سرعان ما ستضطرّ الذائقة الكسلى إلى الانتقال نحو أحضان العصر حين لا يبقى أمامها احتمال أو خيار آخر، وسترضخ للحراك الشعريّ الجديد بعد أن تُغيّر كثيراً من مستقبِلاتها وأساليب وعيها في التعامل مع الروح الجديدة للشعريّة العربيّة.
تنهض قصيدة النثر على ما يمكن أن نصفه بـ»صناعة الكلام» لأنّ لغة هذه القصيدة ليستْ لغة عادية في طاقتها التعبيريّة والتشكيليّة، بل هي لغة شديدة الخصوصيّة والتميّز والفرادة بما يلزمها نوعاً من الصياغة النادرة في أعلى درجاتها، وهو ما يجعلها قصيدة في غاية الصعوبة على من لا يدرك هذه القيمة الكبيرة في إنتاج القصيدة، لذا فإنّ شعراء قصيدة النثر على هذا المستوى لا يمكن أن يتعدّى عددهم المستوى القليل جداً، فالمهارة المطلوبة والموهبة اللازمة والوعي والقدرة والفهم والإدراك والحساسيّة في احتشادها داخل محتوى قصيدة النثر هي الفيصل في نجاح القصيدة، وإذا ما اشتبكت هذه العناصر فضلاً عن عناصر أخرى ساندة وفاعلة ومؤازرة في سبيكة لغويّة مشعّة، فإنّها يمكن أن تولد وتحقّق الشرط الفنيّ والتقانيّ والجماليّ والثقافيّ والفكريّ الضروريّ في أعلى درجات الصيرورة والتحقّق.
تكون قصيدة النثر على هذا النحو القصيدة الأصعب؛ إذ في حالة قصيدة الوزن وقصيدة التفعيلة يساعد الوزن كثيراً في إنتاج كتابة شعريّة، قد لا تكون بطبيعة الحال ذات كفاءة عالية مطلوبة غير أنّها تنتهي إلى ما يصطلح عليه في التداول العام «الشعر»، في حين يفقد شاعر قصيدة النثر هذه الميزة المساعِدة وعليه أن ينجز الكتابة الشعرية «القصيدة» بلا مساعِدات قطعاً، لذا تبلغ أعلى مرحلة من مراحل الصعوبة ونادراً ما ينجح شاعرها في إنتاجها على النحو المطلوب، لتكون في نهاية الأمر قليلة جداً؛ بل نادرة ندرة كبيرة، أمّا عن هذا الهراء الذي يُكتب باسم قصيدة النثر فهو مجرّد إنشاء لا قيمة له ويستحيل أن يندرج في أي درجة من درجات الشعر.
تحوّل النثر العربيّ اصطلاحيّاً بحكم الترجمة إلى مصطلح «السرد والسرديات والسرديّة»، ولم يعد يتحدّث أحد عن مصطلح «النثر» إلّا في المدوّنات التقليديّة القديمة المتعلّقة بتاريخ الأدب العربيّ، وسادت مصطلحات السرد ومعاجمه ودروسه وإشكالياته وقضاياه ساحة النقد العربيّ؛ واشتُقّت كثير من المصطلحات التي حوّلت مفهوم السرد إلى ماكنة لا يتوقّف إنتاجها في أعلى مراحل التكييف والتبويب والتمثيل، مقترباً في ذلك ممّا يمكن أن نصطلح عليه «صناعة الحكاية» على مستوى المفاهيم والمصطلحات والمكوّنات والعناصر والقضايا، والحكاية هنا هي العنصر الأبرز الذي تشتغل عليه السرديّات بمعية عناصر التشكيل المعروفة الأخرى، لكنّها تبقى جوهر العملية السردية ومحورها المركزيّ وتتحرّك بوساطته بقية العناصر
والمكوّنات.
تمتدّ الحكاية داخل المحتوى السرديّ العام ضمن هذا الفضاء بلا حدود ولا نهاية في الاتجاهات كلّها؛ إلى الدرجة التي تصبح فيها لدى البعض وكأنّها هي الهدف والمقصد والمصير، في حين هي المادة الأوليّة الأكثر ضرورة لتشييد البناء السرديّ للقصة والرواية وبقية أنواع السرود الأخرى، وهي على هذا النحو العمود الفقريّ لأيّ نصّ سرديّ يريد أن يصل إلى المتلقّي في حالة من الإدهاش والتنوير الحكائيّ، وتعمل أدوات التعبير الأخرى على توفير أفضل الفرص للحكاية من أجل الوصول إلى النموذج الأمثل للتمثيل والحراك السرديّ.
ينبغي أن تنتهي صناعةُ الحكاية في أعلى طبقات كفاءتها السرديّة إلى القصة في مفهومها العام؛ وهو مفهوم يحتوي على أشكال سرديّة كثيرة تنهض على عنصر الحكاية بوصفها العنصر الأصيل الأبرز، مثلما ينبغي أن تنتهي صناعة الكلام في أبلغ طبقات كفاءته الجماليّة إلى القصيدة بتجلّياتها الشكليّة المختلفة، ولا شكّ في أنّ هذه الصناعة بمعناها التقانيّ والجماليّ والإبداعيّ لا يسعها الارتقاء نحو المرحلة النوعيّة من براعة الصوغ، من غير أن تستند إلى موهبة سابقة عليها تقودها إلى استراتيجيّةِ صناعةٍ وصوغٍ وتشكيلٍ وبناءٍ متميّزٍ، حين تصل اللغة في حراكها التعبيريّ إلى مستوى لا بديل له من قوّة الأداء ومهارته وفرادته، وإسهامه في تطريز نسيج كتابيّ استثنائيّ يطلع إلى عالم التلقّي وكأنّه يُكتب للمرّة الأولى، وكلّ كتابة أدبيّة شعريّة كانت أم سرديّة لا قيمة لها إنّ لم تتحلَّ بهذه المواصفات القائمة على طرافة الصنعة، بالمعنى الذي يجعل من الكتابة الأدبيّة كتابة أخرى، جديدة ومغايرة وفريدة ولا بديل لها.