باقر صاحب
ألقابٌ عديدةٌ أُطلقتْ عليه، منها كاتب نوبل، وكاتب الحارة المصرية، وعميد الرواية العربية، ذلك هو نجيب محفوظ، التي مرت كرى رحيله ال 17 في الثلاثين من آب الماضي، حيث وُلد في القاهرة - حي الجمالية في 11 كانون الأول 1911 وتُوفي في عام 2006. حصوله على جائزة نوبل عام 1988، كان السبب الرئيس في الاهتمام بالرواية العربية عالمياً، فنال شهرةً لم ينلها أديبٌ عربيٌّ من قبل، فتُرجمتْ رواياته إلى مختلف لغات العالم، وأعيد نشر جميع أعماله، وما يزال يعاد طبع أعماله، منها التي نُشرت بعد رحيله.
درس محفوظ الفلسفة في كلية الآداب- جامعة القاهرة، وشرع في دراسة الماجستير في الفلسفة الإسلامية، ولكنه لم ينتهِ منها، إذ شرع للتفرغ في الابداع الأدبي، ولكن النزعة الفلسفية بشهادة مختلف دارسيه تبلورت في رواياته في ذروة نضجه الإبداعي « فظهر وكأنه فيلسوفٌ خسرته الفلسفة وكسبته الرواية العربية، حسبما وصفه النقاد». وصُنّفت مراحل تطور فنه الروائي إلى مراحل عدّة، منها التاريخية، وتجسّدت في روايات «عبث الأقدار» 1939، و»كفاح طيبة» 1943، و»رادوبيس» 1944، ولم يمضِ زمنٌ بعيدٌ، حتى أحدث محفوظ طفرةً في فنّه الروائي بمرحلة سُمِّيت الواقعية، وذلك منذ العام 1945، وتجّسدت في رواياتٍ عدّة منها «القاهرة الجديدة» و»خان الخليلي» و»زقاق المدق»، ومن ثم اتّسمت أعماله في مرحلةٍ روائيةٍ جديدةٍ بالرمزية، متمثلةً في أعمالٍ كثيرة منها «الشحاذ» و «الباقي من الزمن ساعة» و «أولاد حارتنا».
وفي كلِّ مرحلةٍ من مراحل تطوّر فنّه الروائي، نكتشف صدقه الفني، وإخلاصه لدلالات تلك المرحلة، فالمرحلة التاريخية برّزت «انتماء نجيب محفوظ، وتحيزه السياسي لتاريخ وطنه القديم». وفي المرحلة الواقعية، كان محفوظ الأديب الأبرز في الكتابة عن الحارة المصرية، والأبرع في رسم ملامح شخصيات الحارة، نزعاتهم الشريرة والطيبة، وتطلّعاتهم نحو الأفضل، وحظوظهم السيئة في الحياة، فتواتهم وبسطائهم.
أما الثلاثية الرائعة «بين القصرين» و»قصر الشوق» و»السكّرية» هي الروايات الأبرز في أسطرة الحارة المصرية، وبعض شخوصها مثل «السيد أحمد عبد الجواد» الذي يلقب بـ «سي السيد» أصبحت أشهر من نارٍ على علم، فهو أنموذجٌ للرجل الشرقي ذو الشخصية الازدواجيّة، المتزمّت في بيته، وسلطان الأفراح والليالي الملاح خارجه، وعلى وفق تلك الازدواجية يرى الناقد نجيب سرور أنّ النقاد فاتتهم ملاحظة» الكوميديا الواضحة والبارزة جداً في ثلاثية محفوظ، مبدياً دهشته من أن خط الكوميديا «فات كلّ نقادنا» رغم كون الكوميديا طابعاً أصيلاً للمزاج المصري الذي لا تستوقفه إلّا النكتة الصارخة غير المعتادة». وأبرز محفوظ في الثلاثية شخصية أمينة زوجة «سي السيد» الخاضعة جداً لسطوة زوجها، وبذلك قدم محفوظ نموذجا للمرأة الشرقية الخانعة، وعموماً، إنّ الروايات الثلاث تجسّد سيرة الأبن الأصغر كمال أحمد عبد الجواد من طفولته إلى بلوغه، ويقال إنها تمثل نوعاً ما سيرة نجيب محفوظ نفسه، يدعم ذلك كون أسماء الروايات الثلاث هي أسماء حاراتٍ في حي الجمالية، الذي وُلد فيه محفوظ. الإبداع الفني الكبير الذي حققه محفوظ في الثلاثية، أدار انتباه النقاد إلى البحث والتنقيب في أعماله السابقة، حتى أنّ الناقد لويس عوض صرّح «نجيب محفوظ .. أين كنت»، وقال عميد الأدب العربي طه حسين عنها: «أتاح للقصة أن تبلغ من الإتقان والروعة ومن العمق والدقّة ومن التأثير الذي يشبه السحر ما لم يصلْ إليه كاتبٌ مصريٌّ قبله».
ويمكن اعتبار تركيز محفوظ على الحارة المصرية أرخنةً روائيةً لكلِّ شيءٍ فيها «الطرز السائدة في العمارة والأثاث المنزلي والملابس والموسيقى والغناء والتقاليد والعلاقات الاجتماعية والسياق الاقتصادي».
ويرى ناقدٌ مثل الدكتور نبيل فاروق، أنّ روايات محفوظ عن الحارة المصرية، هي التي أوصلته الى العالمية، لماذا؟ لأنَّ الحارة كانت رمز مصر، فهي تتكون، سابقاً، من حاراتٍ متفرّعة، وإذا عرفنا أن الحارات تسكنها الطبقة المتوسطة، التي تمثل غالبية الشعب المصري، فضلاً عن أعداد الفقراء الهائلة في دولةٍ مثل مصر مكتظّةٍ بالسكان، نخلص، إذاً، إلى أنّ الرواية المحفوظيّة هي رواية مصر والشعب المصري. وبالتأكيد ستحضرنا هنا مقولة «المحلية هي الطريق إلى العالمية» مثلما أصبحت ماكوندو ماركيز هي الطريق الى عالميته وحصده جائزة نوبل، على روايته الشهيرة «مئة عام من العزلة».
وهنا ننوه إلى أن الثلاثية هي التي توّجت فوز محفوظ بنوبل، وإذا كان يُذكر أن «أولاد حارتنا» هي التي أسهمت بتتويجه بتلك الجائزة، فيمكن القول إنها بدءاً من العنوان تشير أيضا إلى الحارة المصرية، ولكنّها كانت مرحلة العبور من التيار الواقعي إلى التيار الرمزي في أدب محفوظ، لأنها لم تتحدث عن الحارة، بل تمّ التركيز على شخصيات الحارة، وهي كما يقول محفوظ في حوار» لم تناقش مشكلةً اجتماعيةً واضحةً كما اعتدتُ في أعمالي قبلها.. بل هي أقرب إلى النظرة الكونية الإنسانية العامة» وهو يشير بذلك إلى أن الرواية تستوحي قصص الأنبياء، للإفادة منها في تدعيم سعي المجتمع إلى القيم العليا، كالعدالة الاجتماعية والرفاهية، هنا يمكن القول أن رمزية «أولاد حارتنا» تكمن في نقدها المبطّن لثورة تموز 1952 في مصر بعد انحرافها عن مسارها، وعلى خلفية كلّ ما قلناه عن أسطورة محفوظ، بحسب الحيّز المحدد لنا في الصفحة، فإن رواياته مازالت تُباع أكثر من ذي قبل، والأفلام المستوحاة من رواياته تحقق عدداً هائلاً من
المشاهدات.