المحارب الضاحك

الصفحة الاخيرة 2023/09/24
...

محمد غازي الأخرس

العيلة.. العيله.. نتكهكه لو اجتنه.. العيله؛ رباط أهزوجة سمعتها على لسان مهوالٍ شابٍ، ردَّدها وهو يقفزُ بطريقة رشيقة بين أقرانٍ سرعان ما رددوا وراءه وهم يبتسمون: العيله.. نتكهكه لو اجتنه.. العيله. المعنى أنهم، لفرط شجاعتهم، يطربون ويتهللون مقهقهين حين يعتدي عليهم قوم، ذلك أنَّها فرصة لتجديد شغفهم بالحرب، كونهم عاشقين لها ويطربون للمع السيوف فيها. بالنسبة للكهكهة لغة، فإنَّها مرادفٌ للقهقهة، أي الضحك بترجيع الصوت، وأصلها ترديد البعيرِ هديره، وتسمي العرب الرجل كهاهة إذا نظرتَ إليه كأَنه ضاحكٌ وهو ليس بضاحك.
فنياً، عرفت صورة الشرير الضاحك أو المكهكه في السينما العربيَّة منذ الأربعينيات، فالبطل الشرير كان يضحك بشكلٍ غير مفهومٍ لحظة إيقاع الأذى بغيره. وهناك من أصبحت ضحكته علامة شرطيَّة ترافقُ فعله الشرير مثل محمود المليجي وتوفيق الدقن وعادل أدهم، صاحب الضحكة المقززة التي تبدو وكأنَّها تخرجُ من جوفٍ نيكوتيني أسود. كان أولئك الممثلون يخرجون قهقهاتهم في أحط لحظاتهم الأخلاقيَّة كقتل خصومهم أو اغتصاب البنات المسكينات والخ. ولعلَّ صورة المجرم المقهقه هذه تحولت بمرور الوقت إلى صورة نمطيَّة لم يغامر المخرجون بالعبث بها طوال عقود. بالمقابل، تبدو الصورة مناقضة تماماً في السينما العالميَّة، فالشرير دائماً متجهمٌ وباردُ المشاعر، وإذا ما أبدى أحياناً علامة رضا داخلي عن فعلٍ كريهٍ يقترفه، فإنَّه قد يبتسم ابتسامة المنتصر.
من جهتي، أعتقد أنَّ صورة الشرير المقهقه هذه سطحيَّة وكثيرة السذاجة، ويبدو أنَّ مصدرها يعودُ إلى فكرة الالتذاذ بممارسة العنف على الآخر، وهو ما يعبر عنه سيكولوجياً بالسادية. لكنَّ الميزة هنا أنَّ السادي الضاحك أكثر سطحيَّة من السادي المتجهم.
بالعودة إلى الكهكهة التي تثب من الأهازيج، فإنَّ (رباطهم) القائل: نتكهكه لو جتنه العيله، قريبٌ من قول الآخر: اطربني بماوك خلني اتونس بيه. و(الماو) هو التسمية القديمة للسلاح بشكلٍ عامٍ أو الرصاص، وغالباً ما يربط بـ(الطجيج)، ويحضر ساعة في أهازيج الرجال، وحينا في (كولات) النساء، كقولهم؛ الماو اخبرنه وجينه اعله اصياحه، أو قولهن: الماو أحسن لو شياله؟
نعم، هم يطربون على قعقعة السلاح، وتتبسم ثغورهم وهم يقتلون ويصيبون الأعداء، وأطرف ما ورد بهذا الخصوص قول المتنبي: تمرُّ بك الأبطال كلمى هزيمة.. ووجهك وضاح وثغرك باسم، ولكم أنْ تتخيلوا رجلاً يقتل ويزهق الأرواح وهو يبتسم! يقول المتنبي أيضاً: لأحبتي أنْ يملأوا بالصافيات الأكوبا.. وعليهم أنْ يبذلوا وعليَّ أنْ لا أشربا.. حتى تكون الباترات المسمعات فأطربا.
فإذن، هي فكرة راسخة في مخيال العرب، ومن المنطقي أنْ تنتقلَ لاحقاً إلى مخيال الشعر الشعبي العراقي، فكان أنْ ارتبط القتال بالطرب والثغر الباسم، يقول الحاج زاير واصفاً العباس (ع): ايزولها براضه ولا غوجه (حصانه) تعب.. للحرب ضحاك عمره ما نحب.. ميت الف عراكته وبيها لعب.. ساعة يميلها وساعة يجولها، ويقول أيضاً: ارفوف صارت هجت من ابن الفحل.. وايد صارلهم مثل دوي النحل.. كام يتهلل فرح ذاك المحل.. مطرب وباسم عله لمع السيوف، هو كذلك دائماً، صورة المحارب عندنا أنْ يكون ضاحكاً، من الموت والأعداء وكل شيء، و: العيله.. نتكهكه لو جتنه، العيلة!
ـ