قُبلة حليمة

ثقافة 2023/09/25
...

  ياسين طه حافظ

ما يلفت الانتباه فيما تورده كتبُ تاريخنا، أن كتاب التاريخ أو رواته، صناع أساطير كبار. ولعلهم أساساً حكاؤون رواة أقاصيص، تركوا صفحات مكتوبة أو قصصاً جمعوها وأخباراً. جمعوها أصلا ليكسبوا بها مالا من وال أو من خليفة أو سلطان. وهي اجتماعيَّاً وسيلة حضورهم ومكانتهم بين الناس ما داموا أصحاب علم وخبر.

ومع طرافة بعض الروايات مما يروون واللطف الجميل فيها، هي أنّها تضيّع علينا الحقائق وكأنّ مهمّة كاتب التاريخ أن يمنحنا ما استطرف. فترانا نجهد فيما نقرأ له لنعرف الحقيقة أو نستدل عليها من ثغرة في كلامه فيتحول المروي من التاريخ إلى لعبة «اكتشاف الضائع» و «حزر» الصدق أو الحقيقة بين عديد أقاويله وهي خليط أكاذيب وحقائق وصناعة خيال على سماع أو ظن.. فتستحيل بعض الفصول إلى روايات مصنوعة تُروى، وقد تكون منقولة من روايات

أخرى.

وأنا أقرأ متتبعاً رحلة امرئ القيس إلى القيصر في القسطنطينية طلباً لعون على أعدائه سالبي أو مغتصبي ملك أبيه، أخذتني الصفحات إلى  «لبيد» ولبيد أحد شعراء المعلقات ايضاً. المهم أن شاعراً سلمني إلى  شاعر وكل من دين وكل من معتقد. ومن شاعر إلى  شاعر انتقلت من قصة إلى قصة. فالسموأل، وهو يهودي مثل لبيد، أجار امرأ القيس واوصله إلى الحارث بن جبلة ملك الغساسنة، ليوصله هذا بجاهه إلى  القيصر في القسطنطينية أو «الامبراطور».

هكذا بهذه البساطة يلغي الراوي المسافات ومن دون أية عراقيل. علماً أن السموأل ولبيد يهوديان والحارث بن جبلة ارتضى المسيحية على مذهب اليعاقبة ليُرضي الحاكم الروماني. لكن السموأل ليس مثل لبيد. الأخير يهودي الدين غسَّاني المنتسب، وهما شاعران معروفان وبينهما معرفة ومودة. أفاد الراوي من ذلك فسخّر هذه المادة الطريقة والمعقولة وأفاد مما بين الشاعرين من حسن علاقة وود.

وما دمنا عند لبيد، فلنتحدث عن «قُبلة حليمة»: لبيد يُقبِّل حليمة ابنة ملك الغساسنة في بيت أبيها، فتمضي باكية لأبيها- انتبهوا لصناعة الأحداث، فبدلاً من أن تخجل وتخشى علم أبيها، هي تمضي باكية تشكو مما تجرّأ عليه لبيد. قل لا بأس، لكن الأب، وهو صاحب البلاط، المهاب، قال لها: «هو سيد قومه ولئن سلم من مهمته سأزوجه إيّاك!

هذه الحكاية تدخلنا في أخرى. الأخرى أن «يوم حليمة» احد أيام العرب- وهي أول حرب أو معركة طويلة تسمّى باسم امرأة. ويسود بين الناس المثل

«ما يوم حليمة بسرّ...»

والآن ما هو السر؟

قلنا يوم حليمة من أيام العرب واسم لواحدة من اطول معاركهم. دارت فيه «الحرب» بين المنذر بن ماء السماء، ملك الحيرة والحارث بن جبلة ملك غسان. طال أمد الحرب ولا نصر ولا حسم. فاصطنع رواة التاريخ حلّاً أوصلوه لنا طريقاً، نعم ولكن لا نستطيع اليوم الاقتناع به. ما كان يقنع من قبل قد نضحك منه اليوم.

دعا الحارث ابنته حليمة لتُطيّب مجموعة فرسان بينهم شاعرنا صاحب القبلة، لبيد. (وللعلم، ولكي لا تفوتني المناسبة، كما فاتتني مناسبات، معلقة لبيد من أجمل وأغنى المعلّقات السبع. مركّبة مقاطعها مشاهد سينمائية مشهد يوصل لمشهد..).

فاتخذت حليمة الجميلة طيْباً في الصحاف وراحت تطيّب الفرسان المحتفى بهم بيدها وتلبسهم الدروع.. هل رأيتم كيف تنسج القصص؟ هذه الفتاة الخجول التي تبكي إثر قُبلة، تُطيّب فرسان وتلبسهم الدروع- شاعرنا لبيد وبينما هي تطيّبهم، يُقبِّلها!

لنكمل قصتنا ونعود لقُبلة حليمة ولموت لبيد بعد قُبلة حليمة!

الحارث بن جبلة الغسّاني، أو ملك غسّان، يحيك مكيدة، مؤامرة بلغتنا. فيرسل هؤلاء الفرسان وفداً لملك الحيرة، المنذر يسترضيه. يضيفهم المنذر ويرحّب فرحان بهم، فيجرد هؤلاء الفرسان سيوفهم ويحيطون بالمنذر ويقتلونه. ويهجم عسكر الغساسنة على الحيرة... 

الغريب أن فصول الروايات تُسْرَد أو تروى، براحة واطمئنان، ونحن نقرأ ما يُروى وكان القصص تكتب لارضائنا لا أحد يقول أين الحقيقة بين هذه الخزعبلات.

حسناً، أظنكم ما تزالون بانتظار المزيد عن قُبلة حليمة، وكلنا فاتتنا قُبَل أو سرقنا قُبلاً أو ما نزال نتحيّن ولم نيأس.

ابن الاثير يقول إنَّ الذي قتل المنذر هو لبيد- هذا ما يليق بأسطورة شاعر ولنصدّق ما يروى- فذهب لبيد برأس ابن ماء السماء إلى  الحارث وقد وعدهم أن من يأتي برأس المنذر يزوّجه ابنته، حليمة! ويفي الملك الحارث بوعده، فما أن يقدم لبيد للحارث رأس المنذر حتى يقول له: هي لك! لكن لبيد، لمزيد من اللعب، يقول للملك، ابي حليمة: «بل انصرف لأواسي اصحابي، ويشارك في الحرب التي ما تزال مستمرة بعد قتل الحارث، بين العسكرين- فعاد للقتال وقُتِل! ولم ينلْ لبيد الشاعر والفارس من بطولاته ومن شعره ومن دنياه إلّا قبلة حليمة».بَقِيَ أن أقول في المناسبة إنَّ كل شيء مضى والاحداث راحت صحيحها والكذب وما ظل جميلاً مثيراً وعذباً حتى اليوم هو: قُبلة حليمة.