خطاب المعاصرة والتجديد في (أنا مكبث)

ثقافة 2023/09/25
...

 د . سعد عزيز عبد الصاحب

أطل الفنان المسرحي العراقي برأسه من بين حشد هائل من المعالجات والرؤى العالميَّة ليقرأ نصوص (شكسبير) قراءة تجريبيَّة مبتكرة استندت إلى الوقائع الاجتماعيّة والسياسيّة وانعكاسها على الخطاب المسرحي تارة، وجدة الشكل الفني ومغايرته للسائد تارة أخرى، إذ عمل الفنان الشامل سامي عبد الحميد على بناء كتابة دراماتورجية وإخراجية جديدة للمسرح الشكسبيري خارج الأطر والصياغات الكلاسيكية والطرازية التي عهدتها خشباتنا في تجسيد المسرح، بتأويلات جديدة مقترحة وبقراءات أفقيَّة لمسرحيات (هاملت) و(عطيل) و(مكبث) وبعنوانات (هاملت عربيَّاً) و(عطيل في المطبخ) و(طقوس النوم والدم) تشي بفاعليّة تجريبيّة اصيلة.

وقدم المخرج الشكلاني صلاح القصب ذخيرة واسعة من العروض المسرحية البصريّة المنشقة على السائد المسرحي فأخرج مسرحيات (هاملت والعاصفة والملك لير ومكبث) بقراءات حداثيّة اطاحت بالملفوظ الشعري الشكسبيري وحبكاته الدرامية ذات البناء النفسي العمودي مستعيضا عنها بـ (شعريّة) الصورة المسرحيّة، ومن القراءات الأخرى اللافتة إخراج شفيق المهدي لمسرحية (مكبث) بمعالجة جديدة لمفهوم (السلطة) وتحويل الهامش إلى مركز في ضوء تصدر شخصية (البوّاب) للفعل الدرامي بقراءة سياسيّة استشرافيّة حادّة، ولا يمكن إغفال المعالجات الدراميّة المبتكرة لمؤلفينا المسرحيين في التعالُق الحاذق مع النصوص الشكسبيريّة بوصفها معالجات اتخذت طريقين بنائيين الأول يقوم على الاتيان بحبكة درامية جديدة للنص الأصل وتغيير مسار وفواعل الشخصيات واستبدالها بفواعل وطباع جديدة كما في نص (دزدمونة) للشاعر (يوسف الصائغ) حين ابتكر حبكة بوليسية مركبة يقوم حدثها الرئيسي على التحقيق في جريمة قتل (عطيل) لزوجته الجميلة (دزدمونة) من قبل محققين معاصرين يتوغلون في الماضي، وقام الشاعر خزعل الماجدي بمعالجة فنيَّة فريدة لمسرحية (هاملت) بإقصاء الشخصية الرئيسية هاملت وجعل المسرحية تدور من دون بطلها التراجيدي الذي جاء خبر موته في بداية المسرحية في استكناه دراماتورجي لغياب الفعل في شخصية الامير الدانماركي قادم من الاصل ليكون عنوان المسرحية (هاملت بلا هاملت) وعلى المسار نفسه تداخل المؤلف جواد الأسدي مع النص الكلاسيكي (هاملت) بعنوان جديد (انسوا هاملت) وليكون (لايرتس) هو البطل التراجيدي الجديد، أما المسار الثاني الذي سار عليه المؤلفون والمعدون فهو توظيف بنية كولاجيَّة تحوي أهم مسرحيات شكسبير وأبطاله في انتقائيّة تحمل جدل الأضداد كشرٍ وفساد (الليدي مكبث) و(غرترود) وطهر (اوفيليا) و(دزدمونة) وعفافهما كما في مسرحية (الحريم) للكاتب علي حسين، وكذلك نص مسرحية (مكبث عربة للموت) للكاتب مثال غازي التي استقى فيها من مسرحية شكسبير ظلال الموت التي تُطارد القاتل الطموح مكبث والليدي معا و(روميو وجوليت في بغداد) إعداد مناضل داود، كلها تدخل ضمن المسار الثاني في مفهوم النص (العلائقي) الذي يمتلك مرجعيّة للحبكة ترتبط بالأصل وتتكئ على مصادر معرفيّة وتاريخيّة أخرى لبناء النص الجديد، في مسرحية (أنا مكبث) يعالج الكاتب منير راضي مسألة محاكمة شكسبير من قبل شخوصه التي كتبها بمداد دموي قاتل مستنطقا التاريخ ومستحضرا نصوص المؤرخ الانكليزي (روفائيل هولتشيد) ليثبت براءة (مكبث) من جريمة قتل (دنكن) في ضوء استحضار شخوص مسرحيات (شكسبير) (الملك لير والملك دنكن وهاملت وعطيل وبانكو ومكبث والليدي والساحرات والمؤرخ روفائيل وشكسبير) نفسه للقبض على الحقيقة الغائبة والتي دلسها وخانها بحوار جدلي متعالٍ عميق وبحبكة تتصاعد عموديا كلما دخل شاهد جديد إلى أرض المحكمة وهي في العرض (العالم السفلي) حيث يجري الحدث. أجرى المخرج طلال هادي إجراءات دراماتورجية ذكية عدة لتخليص النص من السرد والاستطراد المونولوجي وتقليل عدد الشخصيات فحذف شخصيات (عطيل وهاملت وبانكو) لعدم تأثيرهم على بنية الصراع بين (شكسبير ومكبث) وطور من وجود (الليدي مكبث) داخل بنية العرض بجعلها روحا هائمة تسيح في الفضاء باستناده فكريا لحوار الليدي: انهم جعلوني صحراء خاوية تصفر بها الريح فلا يسمعها أحد، قيدوني ببيت خنجرك ودفعوا بمقبضه لكلاب الجحيم، صيروني شبحا، انتزعوا منّي الروح ليوم غير معلوم ص21، ووسع من دور الساحرات داخل بنية العرض واعطاهن دورا تقديميا ملحميا أقرب لدور الراوي البريشتي بمحطات ترويحية متفاعلة ومتواصلة مع الجمهور كسرت يقين السرد المأساوي للشخصيات. لم تشهد الساحرات في صالح (مكبث) في المحكمة الافتراضية لأنهن من خلق شكسبير ولسن من خلق التاريخ. جاء الإنشاء السينوغرافي للمخرج موفقا في اقتراح شكل العرض ومكانه (المحكمة) بتوابيتها الجاثمة وإطارها المكفّن بالشراشف البيضاء و(سايكلوراما) خلفية متحرّكة تشير إلى  وجودنا في عالم آخر ملتبس وغرائبي تجول به الكائنات الشبحيَّة والظلال والشياطين، وتقريب الملكين (لير) و (دنكن) من بعضهما ميزانسينيا ولعبهما دور القضاة لكونهما يحملان المصير التراجيدي نفسه الذي كتبه لهما شكسبير، وتوظيف التقنية الضوئيَّة للكشف عن معانٍ ودلالات مضمرة داخل ضمير (مكبث) كالخنجر الذي نفذ بشكل جمالي بارع، والساعة الزمنيَّة التي نزلت من الأعلى مجتزأة الزمن كأنّها تعطي دلالة للزمن الافتراضي المتآكل وليس الواقعي وكذلك نزول حرف G باللغة الانجليزية دلالة على علامة البحث غوغل مع حضور شخصية المؤرخ (روفائيل هولتشيد) المنقب والباحث في بطون التاريخ في إشارة معاصرة وحداثيَّة فضلا عن الحوار المتلفن بين الليدي ومكبث صورنا إيّاه العرض كأنّنا في أحد السجون الحديثة ودلالة اللون الأحمر في أزياء الشخوص أعطت جوا متوترا وكأنّها ملابس الإعدام مما حفّز الزي قدرة الممثلين على التشبّث بإفاداتهم أمام المحكمة لأنّهم ذاهبون إلى الموت. أما على صعيد الأداء التمثيلي فقد حمل شراسة فنيّة في التنافس بين الممثلين كل يذود عن شخصيته التي يمثلها، فكان زمن علي) وهو يصدح بصوته القوي الذي خلا من العي أو الضعف في اللفظ بعبارات مسموعة وايقاع ممسوك عبر بجدارة عن لحظات عدم الاستسلام أو الخنوع لدى (مكبث) في توصيل براءته للمحكمة، وكذلك الممثل حميد عباس الذي اضطلع بأداء دور (شكسبير) بحضور راكز وشبه قريب من الصورة التخيليّة للمؤلف الانكليزي وتبّأر على الذات بهدأةٍ مبدعةٍ وتمكن من مناطق الحوار وتوصيل معناه، ولم تكن الممثلة إيمان عبد الحسن بعيدة عن الإبداع في صياغة دورها (الليدي مكبث) فكانت لولب العرض بحركتها الدائبة وتوقيتها الدقيق في التسلّم والتسليم الحواري. ولا بدَّ من ذكر استرخاء الممثل احمد محمد صالح الذي نهض بدور (الملك دنكن) المقتول وسلاسة حضوره، أما فراشات العرض (الساحرات) (فيروز وتبارك وداليا) فكن محلقات خارج أفق المتوقع في سماء ورديّة جديدة من التألق والنفاذ الجميل إلى قلب الجمهور بحركات سريعة وذكيّة وحضور خفيف الدم متحفّز ومتقن الأداء، وكان السنافر (تراث ومهدي واحمد) ويتقدمهم عدي عباس بدور المؤرخ (روفائيل) أحد علامات العرض الفارقة في دقة التزامهم وضبطهم الحركي الدقيق وقدرتهم على تلافي الأخطاء ان حدثت اثناء العرض، وفي النهاية لا بدَّ من التعريج على أداء الممثل طلال هادي ونبوغه التمثيلي بصوته المتهدّج الشفيف وهو يضطلع بدور (الملك لير) ويقود العرض إلى  شاطئ الأمان، ومن الجنود المجهولين في العرض لا بدَّ من الاشارة إلى إضاءة ناظم حسن وسعد الشاهري المتميزة ودقة التنفيذ الصوتي لهمام حسن ومكياج ندى طالب.