العراقُ يُواصلُ حملتَهُ الشَّاقة لاستردادِ آثارِهِ المنهوبة

ريبورتاج 2023/09/26
...

  نجلاء الخالدي
  تصوير: خضير العتابي

كنت جالسا على الرصيف قبالة بوابة المتحف العراقي في منطقة العلاوي عندما فرَّ آخر جندي يحمي البوابة الرئيسة للمتحف الذي يقع قريبًا من أكثر الأحياء فقرًا وحرمانا، لتبدأ بعدها أكبر عملية سلب ونهب في التاريخ المعاصر للآثار العراقيَّة، في البداية كان الهجوم يتركز على أثاث المتحف، إذ إن الفقراء كانوا يتصارعون للحصول على ثلاجة أو مكيّف هواء من دون أن يأبهوا بمقتنيات المتحف الأثريَّة وكنوزه قبل أن تتوجّه مجموعة من الأشخاص إلى الآثار، كانوا عراقيين ويبدو أنهم يعرفون قيمة الكنوز التي يحملونها بينما كانت المدرعات الامريكيّة تقف قريبًا من بوابة المتحف لكنها لم تمنع السُّراق أو تعترض طريقهم.
فكُّ الشّفرة
يقول الخبير في شؤون الآثار العراقيَّة، كرار الروازق: إنَّ "سرقة آثار محفوظة بعناية ما كانت لتتم بهذه السهولة لولا أن هناك تعاونًا مع أفراد يعرفون فك الشفرة". مبيّنا أنَّ "البوابات التي تؤدي إلى الآثار كان محكمة الغلق ومفاتيحها لدى كبار المسؤولين عن أمن المتحف، وعملية السرقة كانت احترافية وعلى يد أشخاص قدموا إلى العراق لهذه المهمة على وجه الخصوص".
وأشار إلى أنّهم "تنصّلوا من المساءلة القانونيَّة ولم توجه لهم اي تهمة تذكر"، مشددًا على أنَّ "الاثار المهمة كانت محفوظة بعناية، وليس بوسع مخلوق الوصول اليها من دون معرفته بفك شفرة الخزينة، لهذا كان هناك تعاون بين بعض الموظفين والسرّاق الكبار الذي وصلوا لهذا الغرض".

مزاد أثري
بعد عدة أشهر من غزو العراق بدأتْ تقام مزادات علنيَّة وسريَّة لبيع آثار بلاد ما بين النهرين. استفزّت تلك الأخبار مشاعر العراقيين، واضافت جرحًا جديدًا إلى ذاكرتهم المليئة بالمآسي عبر التاريخ.
ومنذ هجمات هولاكو على مدارس الكتب في بغداد التي صبغ بها نهر دجلة حتى عبث عصابات داعش بآخر من تبقى من أقدم حضارة إنسانيَّة عرفها التاريخ، عندما نهبوا وحطموا الآثار الآشوريَّة في متحف الموصل.

حملات وطنيَّة
وقد خاض عدد من الناشطين العراقيين حروبًا على مواقع التواصل الاجتماعي، واجروا اتصالات واسعة مع منظمات دوليّة لوقف عمليات بيع آثار العراق وكنوزه العظيمة، ولاقت حملاتهم صدى جيدًا لكنّها لم تكن كافية لوقف هذه التراجيديا المريعة.
وعلى الرغم من ضعف الجهود الحكوميّة كون البلاد سقطت في مستنقع حروب أهلية شنها المتطرفون، وضعت فيها الدولة كل جهدها بحيث غدت مسألة استرداد الآثار ثانويّة حينما تعرض مستقبل العراق كله للخطر والسقوط بيد المجاميع الارهابية المتطرفة التي عاثت كثيرًا بدماء العراقيين وأمنهم وسلامهم.
وما أن وضعت الحرب أوزارها بهزيمة عصابات داعش حتى تصاعدت وتيرة الجهود لاسترداد الآثار العراقيّة المنهوبة من جديد.
 وانشأت الحكومة العراقيّة أول منصّة حكوميّة لتتبع بيع الآثار التي خرجت من العراق بطرق غير مشروعة عبر شبكات التهريب.
ويشير الخبير. في شؤون الآثار والمدير السابق لمتحف الناصرية الحضاري عامر عبد الرزاق "كان من الواضح للجميع أن هذه الآثار سُرقت من المتحف الوطني العراقي، حيث كانت تحمل أرقامًا تسلسليَّة ما يؤكد أنّها لم تكن نتاج أعمال حفر غير قانونيَّة".

رحلة شاقة
نجح التنسيق العالي بين وزارتي الخارجية والثقافة، وبدعم دولي من الوصول إلى أعداد مهمّة من القطع والمقتنيات التاريخيّة التي نهبت من المتحف العراقي وأماكن أخرى، وحققت الدبلوماسيّة العراقيّة العديد من النجاحات في هذا المجال ولعلّ أشهرها استعادتها نحو ١٧ ألف قطة أثريّة من الولايات المتحدة الأمريكية تعود إلى الحضارات السومريّة والبابليّة في  تموز من العام 2021، وصفت بأنّها أكبر عملية استرداد للآثار المنهوبة من العراق.

دبلوماسيّة الاسترداد
ويصف المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجيّة أحمد الصحاف نجاح العراق باستعادة هذا العدد الكبير من الاثار العراقيّة إلى موطنها الاصلي بأنّه انتصار لدبلوماسية الاسترداد التي انتهجتها الحكومة العراقيّة خلال مفاوضتها التي استمرت عدة سنوات لاسترجاع الاثار العراقيّة المنهوبة. وفقًا للاتفاقية بين العراق وأمريكا لملاحقة الإتجار غير المشروع بالآثار العراقيّة.

مجلس الأمن
ويقول وزير الثقافة والسياحة والآثار السابق حسن ناظم، إنَّ "العراق يمكنه الآن الوصول إلى التجار واللصوص في عقر دارهم وان ملاحقتهم لن تتوقف، ولفت ناظم أن قرارات مجلس الأمن أسهمت باسترداد العديد من هذه القطع بالتعاون مع دول عديدة، من بينها الولايات المتحدة .
وكان مجلس الأمن قد جدد في شباط من العام 2015 قراره القاضي بحظر المتاجرة بالآثار المسروقة من العراق في مسعى لتجفيف مصادر تمويل عصابات داعش، التي نهبت هي الأخرى عددًا كبيرًا من القطع الاثريّة النفيسة، واستخدمتها كتجارة مربحة لتمويل العمليات الارهابيّة التي تنفذها تلك العصابات.

التكنولوجيا رفيقة
ووفقًا لأحد برامج الذكاء الصناعي المتعددة فقد نجح العراق لغاية 2023، باسترداد ما يقرب من 18 ألف قطعة أثرية مسروقة، غالبيتها العظمى (17,899 قطعة) أعيدت من الولايات المتحدة. وتشمل هذه القطع ألواحًا طينيّة مسماريّة، وتماثيل، ونصوصًا، وأدوات، وقطعًا معماريّة.
وفي عام 2022 استعاد العراق ثمانية ألواح رخاميّة تعود لمدينة نمرود الآشوريّة، والتي تمّ العثور عليها في الأردن. وقد تمّ تهريب هذه الألواح إلى الأردن في عام 2016، ووجدتها السلطات الاردنيّة في منزل أحد المواطنين الأردنيين.
كما أعيدت قطع أخرى من ألمانيا وعدد من الدول العربية والاوربية ضمت مجموعة واسعة من العناصر، من بينها التماثيل واللوحات والنقوش والألواح المسماريّة. وتعود هذه القطع إلى مختلف الحضارات التي تعاقبت على العراق، بما في ذلك الحضارة السومريَّة والبابليَّة والآشوريَّة.
لكن هناك العديد من الاثار العراقية في العديد من الدول بينها امريكا وبريطانيا وفرنسا وعدد من الدول الاوربية ودول الجوار تسعى الحكومة العراقية لاستعادتها وهي آثار لا يمكن تقدير قيمتها بثمن لكن جرى بيعها بمليارات الدولارات.

أشهر الآثار المسروقة
ومن أشهر الىثار المسروقة لوح مسماري يعود إلى حضارة سومر، ويعود تاريخه إلى نحو 2600 قبل الميلاد، وتمثال لأسد أبو الهول من حضارة آشور، ويعود تاريخه إلى نحو 800 قبل الميلاد، وقطعة معماريَّة من حضارة بابل، ويعود تاريخها إلى نحو 600 قبل الميلاد.
وتعدُّ هذه القطع الأثريَّة جزءًا من الحضارة الانسانيَّة التي شيّدها العراقيون على أرض بلاد ما بين النهرين.

ملف معقد
والحق أن ملف استرداد الاثار العراقيّة يعدُّ ملفًا شائكًا يواجه العديد من التعقيدات التي تجعل عددًا من الدول تحجم عن التعاون مع العراق في ملف استرداد الآثار، لعل ابرز هذه الأسباب صعوبة تحديد أصل القطع الأثريّة في بعض الحالات، مما يجعل من الصعب إثبات أنّها مسروقة من العراق، فضلًا عن القوانين المحليّة، إذ قد تكون هناك قوانين محليَّة في بعض الدول تمنع استرداد الآثار التي تمَّ شراؤها أو بيعها بشكل قانوني، وأيضا المصالح السياسيّة، إذ قد لا ترغب بعض الدول في التعاون مع العراق بسبب مصالح سياسيّة أو اقتصاديّة، إذ إنَّ العراق لا يرتبط بعدد من الدول باتفاقيات ثنائيّة بشأن استرداد الآثار، فضلًا عن صعوبة تتبع القطع الأثريّة المسروقة في السوق السوداء العالميّة.

إجراءات لاسترداد الآثار
واتخذ العراق مجموعة من الإجراءات والمسالك للوصول إلى اثاره المنهوبة واستردادها، ومن بينها الطرق الدبلوماسيّة حيث تسعى الحكومة العراقيّة إلى الحصول على تعاون من الدول الأخرى لاسترداد الآثار العراقيّة المسروقة، فضلًا عن الطرق القانونيّة التي ترفع الحكومة العراقيّة دعاوى قضائيّة في المحاكم الدوليّة لاستعادة الآثار العراقيّة المسروقة، والطرق الأمنيّة التي تعمل الحكومة العراقيّة على تعزيز الأمن في المواقع الأثريّة لمنع عمليات النهب، حيث تعمل الحكومة العراقية على تعقب تجار الآثار غير الشرعيين لاسترداد الآثار المسروقة، فضلا عن التعاون مع المؤسسات الدوليَّة حيث تتعاون الحكومة العراقيَّة مع المؤسسات الدوليّة، مثل منظمة اليونسكو والشرطة الدوليّة (الأنتربول)، لاسترداد الآثار المسروقة والتوعية العامة بأهمية الآثار العراقيّة وضرورة حمايتها من النهب.

القطع المستردَّة
وحقق العراق في استرداد بعض القطع الأثريّة المهمّة منها، رأس الملك نبوخذ نصر، الذي يعود تاريخه إلى القرن السادس قبل الميلاد، ورأس الملك سرجون الثاني، الذي يعود تاريخه إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وتمثال الإله مردوخ، الذي يعود تاريخه إلى القرن السادس قبل الميلاد، ولوحة مسماريَّة من مدينة أور، تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وأيضا نقوش من مدينة بابل، تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد.

الدول المتهمة
وهناك دول يتهمها العراق بعدم التعاون الكافي لإعادة الآثار العراقيّة، منها الولايات المتحدة، إذ رفضت تسليم بعض القطع الأثريّة التي تمَّ تهريبها من العراق خلال فترة الاحتلال الأمريكي في عام 2003، وبريطانيا، إذ يعتقد العراق أنَّ هناك العديد من القطع الأثريّة العراقيّة المسروقة في المتاحف البريطانيّة، فضلًا عن فرنسا، إذ تمّ ضبط العديد من القطع الأثريّة العراقيّة المسروقة في السوق السوداء الفرنسيّة، أما سويسرا فتمّ ضبط العديد من القطع الأثريّة العراقيّة المسروقة في السوق السوداء السويسريّة. وألمانيا، إذ تمّ ضبط العديد من القطع الأثريّة العراقيّة المسروقة في السوق السوداء الألمانيّة.