ثقافتنا المعطلة في حياتنا

ثقافة 2023/10/01
...

  طالب عبد العزيز 

 هناك خيط غير مرئيٍّ بين الثقافة كمفهوم وجذر الكلمة العربي القديم، الذي لايذهب بعيداً عن تثقيف (تعديل) السيف أو الرُّمح على (الثقاف)، وهي خشبة أو حديدة، تستخدم في تقويم آلات الحرب آنذاك، مع أن المعاجم المتأخرة توسعت في تفسيرها، فثقف الرَّجُل ثقافة أي: صار حاذقا، خفيفا، ومنه المثاقفة. وثقف ثقفا أَي: صار حاذقا، وغلام ثقف أي ذو فطنة وذكاء، لكأنها تقترب من فهمنا الحاضر لدور الثقافة، واستخدامنا الحديث لها، خارج حدود الأدب والكتابة في الشعر والرواية والفنون الأخر.

   وبفعل الزمن، ذهبت ديناميكيّة الحياة بالفهم المحدود لكلمتي (ثقافة ومثقّف) خارج التقيّيد المُعجمي، ودستهما في أدق مفاصل النشاط الإنساني، حتى صرنا نقول بأنَّ الثقافة التي كانت زاداً مُستحصلاً ومستخلصاً بالدرس، داخل أسوار المدرسة والجامعة ومراكز البحوث ذات يوم، واتضحت تمثلاتُها فيما بعد بالثياب والوظيفة والاطلالة الجميلة قد تجاوزت ذلك اليوم، لتصبح نمطاً حياتيّاً، وسلوكاً اجتماعيّاً، اتّسع كثيراً، حتى بات يتمظهر في مفردات الحياة كلّها، ويشترك به عالم الفيزياء والأستاذ الجامعي وصاحب الشركة، والبائع في السوبر ماركت.. وربما تجلّى ذلك في ما هو أدنى طبقة من هؤلاء، بعد أنْ ضيّقت الهواتف الذكية، ومواقع التواصل الاجتماعي الهوّة بين طبقات المجتمع، ففنون المعرفة بعامة أصبحت بمتناول الجميع، ولم تعد حكراً على فئة بعينها، فما كان فكرة غائبة، ومسألة مستحيلة، وعِلماً مستغلقاً، وممارسةً ضيقة، وخصيصة فئة ما لم يعد كذلك اليوم.   لا نريد أنْ تبدو الصورةُ هذه أفقاً ورديَّا، مع أنها بتصور البعض حقيقةً كاملة، وهناك من ينظر لها بوصفها حقاً مكتسباً، فالناس بطبيعتها، قادرة على استيعاب فكرة الثقافة، والنزوع الانسانيُّ لا يتقاطع معها، لكنَّ الثقافة لا تقوم بذاتها، هي نتاج سياسة واعية، مثلما هي حاجة وضرورة، ولا يمكن تحققها إلا إذا انعقدت النوايا، وتم التخطيط لها، وشُرعَ بالتنفيذ. لكنَّ هذا ما لم يبدأ في حياتنا بعد، فالفرد متروك لذاته، يقوّمُها بنفسه، فينجحُ مرةً، ويخفق مرات، لأنَّ المؤسسة السياسية والادارية بكل رجالاتها لم تأخذ بعين خططها مادة الثقافة، كضامن حيوي في عملية صنع آلة الحكم، وهي، والى اليوم تعتقدُ بأنَّ نجاحها في إقامة مهرجان شعري أو معرض للكتب فهمٌ وتفعيلٌ لدور الثقافة. 

نحن، إذن أزاء مفهوم كليٍّ لثقافة عراقيّة، تأسست عقب ولادة الدولة العراقية، وإن لم تكن فاعلة بقوة آنذاك، لكنَّ معالمها اتّضحت بجلاء في خمسينات وستينات القرن الماضي، وربما ظهرت عليها تأثيرات ثقافية أقليمية (تركيا وإيران) ولا شك أنَّها انتفعت بما انتقل إليها من ثقافة المستعمرالانجليزي، ولا نعدم دور المصلحين الدينيين، وكانت مؤهلة، وبقوة لتحدث تحولات اجتماعية أكبر، بعد نشوء طبقة كبار الموظفين والملّاكين والتُّجار «وعلى الرغم من أنَّ بناة الثقافة الأُوُل كانوا على صلة بمنحدراتهم الدينيّة، لكنَّ التمرَّد على الدين المحافظ شكَّل سمات المثقف العراقي الحديث». بحسب د. فاطمة المحسن، في مقدمة كتابها (تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث).  لكنْ، في مجتمع لم يستطع التخلّص من تكوينه القبلي، إن لم نقل: مازال يرزح تحت هذا النير المرعب، وتتحكّم به آلة الدين، خارج منطق العقل والعلم، وتلعب السياسة العرجاء في صميم تحولاته، بما جعلته يعود القهقرى، سنوات وسنوات، في نكوص مخجل، لا يتناسب مع حجمه في التاريخ والتحولات الكبرى في محيطه الإنساني، قطعاً، سيكون حديث الثقافة من أهم الأحاديث، وأجدرها بالتناول، لا بمحدودية الأدب والكتابة إنما بتجاوز ذلك الى أدق مفاصل الحياة، من أجل أنْ تتحقق صورة الشخصية العراقية، أو استعادة بعض ما فقدته خلال أربعة العقود الماضية من حياته، بحساب ما أسس له بقاعة الخلد، وابتداء الحرب مع إيران، ومن ثم طامته الكبرى، بصعود التيارات الدينية، التي مازالت تقف بالضد تماماً من مفهوم الثقافة.الثقافة عند زكي نجيب محمود «هي طريقة العيش في شتّى نواحيه» إذ، لا ينفصل فعل الثقافة عما نشاهده في الشارع والسوق والمدرسة والجامعة وفي مطلق تفاصيل حياتنا، ولعل ما يعلّقُ في التقاطعات والشوارع والجزرات الوسطية من إعلانات وصور ويافطات وغيرها، خير دليل على تقاطعنا مع الثقافة، وإهمالنا لدورها. لم تعد صورة المرأة، بزيّها الحضري في الإعلان التجاري دعوة للتبضع حسب، إنما هي علامة من علامات التمدن والتحضر والرّقي، في فهم سيميائي للحياة، فالصورة الجميلة مبعث طمأنينة، ورسالة سلام، كذلك ستكون ألوان المباني، وواجهات المحال التجارية، ومثلها مبنى المدرسة وسور محيط الجامعة، ولا يقرأ ما يرفرف من بيارقنا، ممزقاً ومحترقاً بالشمس، وما يرفع من صور ويافطات بنفس طائفي، أو ما يكتبه أصحاب المصالح، والمهن، وهدم الدور، وإصلاح الاطارات..  بعيداً عن تخلفنا وفهمنا لما يجب أن تقوم وتكون عليه الثقافة، أبداً، فهذا تشويه صادم، إن لم نقل إرهاباً صورياً، يزعزع ثقتنا بما نكتب ونخط

ونرسم.