محمد غازي الأخرس
رحم الله الحاج (دالي) الذي حدثني أحد أقربائي عن قصته الغريبة مع الزلاطة؛ كان الحاج المكرود قد هاجر من ريف العمارة لبغداد حديثاً، وبعد استقراره في أحدى صرائف الشاكريَّة، خطر له أنْ يزورَ أحد أبناء عمومته الذي كان قد استقرَّ قبله في العاصمة من سنوات وتغيرت أحواله نوعاً ما. ذهب إليه وطرق بابه، فخرجت له زوجته ورحبت به رغم أنَّ زوجها لم يكن في البيت. دخل صاحبنا وجلس في فضوة تشبه الطارمة، ثم هرعت أم البيت لتقوم بضيافته وتقدم له طعام الغداء. حملت المرأة الصينيَّة ووضعتها أمامه، ثم صاحت على ابنتها : فلانه ولج جيبي الزلاطه. فجاءت البنت لتضع أمام الضيف صحناً يحوي طماطم مقطعة مخلوطة بالبصل، ثم ذهبت الاثنتان.
مع هذا، لم يمد دالي يده للطعام وبقي ينتظر، ثم انتظر وانتظر حتى تضور جوعاً والصينيَّة أمامه، خجلاً من مناداة أم البيت. مرَّ وقتٌ طويلٌ حتى بردت المرقة والرز ولم يأكل الرجل لقمة من غدائه الشهي، وكان يمكن أنْ يظلَّ كذلك حتى العصر لو لم تخرج مضيفته صدفة فتراه. انتبهت إلى أنَّه لا يزال ساكناً بانتظار شيءٍ ما، فقالت له: يمه دالي، سوده بوجهي أشو ما ماد ايدك على الزاد؟ فأجاب: منتظر الزلاطه اللي قلت لفلانة تجيبها، وينها؟ فردت المرأة: مو هاي؟ مشيرة إلى صحن الطماطم والبصل، فاستغرب دالي أشدَّ الاستغراب وقال لها ضاحكاً: خوب گولي جيبي لعمك ماعون الطماطة والبصل. لقد تصور أنَّ (الزلاطة) أكلة بغداديَّة شهيَّة تعلمها المهاجرون من المجتمع الذي عايشوه، فظل ينتظرها لتكتمل لوحة غدائه الناقصة. لم يكن الرجل القادم لتوه من الريف قد سمع بمفردة (الزلاطة) هناك، فتصور أنها تعني شيئاً آخر غير أنْ تكون طماطم مقطعة مخلوطة مع البصل وموضوعة في صحن صغير. ولا أدري من ثم إنْ كان الريفيون في العراق قد عرفوا المفردة أو حتى مفهوماً قريباً منها ضمن منظومة الغذاء خاصتهم، لكنَّ الأكيد أنَّ المكرود دالي لم يسمع بالزلاطة مطلقاً.
لماذا تذكرت القصة؟ تذكرتها لتبرير شعوري بالحيرة هذه الأيام حين أسمع أسماء الأكلات الجديدة، أو التي يوهمون أنها جديدة، في حين أننا ما أنْ نتمعنَ بها حتى نكتشف أنَّ لا جديد فيها. الطعام هو نفسه والوجبات ذاتها مع تغييرات جد طفيفة.
تسمع مثلاً بالـ (فاهيته) فاذا هي مجرد شطيرة تتكون من شرائح دجاج مع الفلفل والبصل. يخطر في ذهنك أنْ تسأل عن مكونات الـ(هوت دوك) فتكتشف أنها مجرد شطيرة صوصج وفي باطنها باسطرمة. تدخل إلى المطعم وتطالع الـ(منيو)، فتقرأ: سلطة سيزر، وإذ يجيئون بها إليك تكتشف أنها خس ودجاج مقطع قطعاً صغيرة ومعها طماطم على شكل مربعات. أما الـ(فلو) فهي مجرد لفة دجاج محمص، علما أنَّ حتى مفردة (محمص) تحولت إلى مفردة (كرسبي)، والـ (زنجر) مجرد لفة دجاج بدون عظام مع بطاطا مقليَّة، وهذه الأخيرة صارت تسمى (فنكر)، بل انك حين تطلب الـ(زنجر) سيسألك الجرسون: تريدها سبايسي لو عادي؟ فتحار إنْ كنت من نوع الحاج دالي وتسأل: شنو يعني سبايسي؟ فيرد عليك مع ابتسامة مستغربة: يعني حارة حجي!
- أي خوب كول حارة يا بعد عمك!
رحم الله الحاج دالي، كلنا مثله لكنَّ التسميات أصبحت حديثة!