يوسف نمير
في الأشهر الأحد عشر التي سبقت انضمام فنلندا في نيسان 2023، لم تكن هناك حملات تضليل، أو هجمات إلكترونية، أو اغتيالات سياسية، أو اقتحام المجال الجوي، أو تهديدات دبلوماسية، أو أي من تكتيكات الحرب الهجينة الأخرى، التي اتُهمت روسيا باستخدامها في أماكن أخرى في السنوات
الأخيرة.
ولم تكن هناك أي حشود عسكرية خطيرة. بل على العكس من ذلك، قللت روسيا من أهمية القضية برمتها، وسحبت فعلياً الغالبية العظمى من قواتها ومعداتها العسكرية بعيداً عن المنطقة. وفي آب 2023، أكدت وزيرة الخارجية الفنلندية (إيلينا فالتونين) أن المنطقة الحدودية “خالية تمامًا” من القوات الروسية. وعلقت قائلة: “لو كنّا نشكل تهديدًا، لما قاموا بالتأكيد بسحب قواتهم بعيدًا، حتى في حالة اشتباكهم في مكان آخر”.
إنَّ افتقار بوتين الواضح إلى الاهتمام بعضوية فنلندا والسويد في منظمة حلف شمال الأطلسي يشكل سخرية كاملة من جهوده الرامية إلى تبرير غزو أوكرانيا، من خلال التلويح بعلاقات أوكرانيا الأكثر هشاشة مع التحالف العسكري. في حين أن أوكرانيا كانت حريصة بشكلٍ متزايد على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي منذ بداية العدوان الروسي في عام 2014، فإن العضوية لم تبدُ مقبولة ولو بشكلٍ غامض. رفض أعضاء الناتو فكرة منح كييف خطة عمل للعضوية في عام 2008، ولم يقدموا منذ ذلك الحين أكثر من مجرد عبارات مبتذلة، بينما قللوا باستمرار من فرص انضمام أوكرانيا فعليًا إلى
الحلف.
والواقع أن المستشار الألماني أولاف شولز أكد شخصياً لبوتين، عشية الغزو الروسي الشامل، أن أوكرانيا لن تحصل على عضوية حلف شمال الأطلسي “في الأعوام الثلاثين المقبلة”.
ولم يمنع هذا بوتين من تصوير الغزو الشامل لأوكرانيا، باعتباره رد فعل مبررا على توسع حلف شمال الأطلسي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ليشمل الكتلة الشرقية السابقة والتعامل مع أوكرانيا. فهو يصر في كثير من الأحيان على أن نمو التحالف منذ عام 1991 كان انتهاكاً للضمانات غير المكتوبة، التي زُعم أنها قدمت خلال سنوات شفق الحقبة السوفييتية، وقد اتخذ قراره بمهاجمة أوكرانيا كإجراء وقائي لحماية روسيا نفسها.
وقد أثبتت هذه الحجج التي لا أساس لها أنها مقنعة على نحو مدهش بين الجماهير الدولية، حيث استفادت من التيارات الخفيَّة القويَّة من المشاعر المعادية للغرب والمعارضة واسعة النطاق للدور المهيمن الذي تلعبه أميركا في الشؤون
العالمية.
ومع ذلك فإن القرار الذي اتخذته روسيا بنزع السلاح طوعاً على حدودها الحالية مع منظمة حلف شمال الأطلسي، يقوّض الآن بشكلٍ خطيرٍ مصداقية الجهود، التي يبذلها بوتين لتصوير التحالف باعتباره تهديداً أمنياً للاتحاد
الروسي.
إن الاستياء الروسي إزاء توسعة حلف شمال الأطلسي صادق بما فيه الكفاية، إلا أنه لا علاقة له بالمخاوف الأمنية. وبدلاً من ذلك، يعترض بوتين على حلف شمال الأطلسي لأنه يمنع روسيا من استئساد
جيرانها.
ورغم أن انسحاب القوات الروسية من جانب واحد من الحدود المشتركة للبلاد مع حلف شمال الأطلسي، يتناقض بوضوح مع الموقف الرسمي للكرملين، فمن غير المرجح أن تغير موسكو لهجتها في أي وقت قريب. إن الشكاوى بشأن توسع حلف شمال الأطلسي تزود الكرملين بستار من الدخان، لا غنى عنه لإخفاء ما يُعَد في واقع الأمر أفظع عمل من أعمال العدوان الدولي، التي شهدتها أوروبا منذ أيام (هتلر) و(ستالين).
إن التخفيض الكبير في الوجود العسكري الروسي على طول حدود البلاد مع حلف شمال الأطلسي، كان ليصبح مستحيلاً لو كان أي شخص في الكرملين يعتقد جدياً أن الحلف يشكّل تهديداً حقيقياً. ومن الواضح أن هذا ليس هو
الحال.
ويدرك بوتن تمام الإدراك أن فكرة هجوم حلف شمال الأطلسي على روسيا سخيفة برمتها، ولكنه استغل هذه القضية بشكلٍ ساخرٍ لتبرير غزوه الإجرامي لأوكرانيا. ويتعين على أي شخص غير روسي لا يزال يصر على إلقاء اللوم على حلف شمال الأطلسي عن الحرب في أوكرانيا أن يسأل نفسه لماذا من الواضح أن القيادة الروسية لا تشعر بالتهديد من جانب
الحلف.