رقصة الموت الأخيرة

آراء 2023/10/02
...

  حمزة مصطفى

قبل أربع سنوات شبعنا لطمًا على العبّارة التي غرقت في الموصل وضحاياها بالمئات. بعدها بسنتين لطمنا وشققنا الجيوب على «خدج» مستشفى اليرموك. وبعد سنة ونصف أخذنا جولة أخرى من اللطم والبكاء والعويل على حريق مستشفى ابن الخطيب. الأمر نفسه تكرر لكن بإيقاع أكثر حزنًا وقهرًا مع حفل زفاف قاعة ابن الهيثم في قضاء الحمدانيَّة بالموصل. لحظة وقوع الفاجعة التي أدمت قلوب كل العراقيين كانت الكاميرا توثّق الرقصة الأخيرة للعروسين اللذين لم يكن يدور بخلدهما أن هذه الرقصة سوف تكون الأخيرة في لحظة توقف فيها زمن الفرح إلى الأبد. شاهدناهما بكامل جمالهما وأناقتهما وفرحهما الحزين، وهما يتطلعان إلى ما بدا أنه مشهد غير مألوف. النيران تتساقط من الجدران. لأول وهلة اختلط ما بدا أنها ألعابٌ ناريَّة هبطت إلى الأرض كجزء من لعبة الفرح المميت. لكن لحظة إتساع النيران وبسرعة أشد مما هو متوقع جعلهما يسدلان الستار على لحظة فرح لم تدم حتى لحظات، قبل أن يؤثث الموت الفاجع كل أركان وزوايا القاعة التي تحوت إلى ركام بمن فيها.
خمدت الأنفاس والنيران معا, وبقي العريسان يتطلعان إلى من مات ومن بقي على قيد الموت المؤجل. سرعان ما تحولت زينتهما الباذخة في تلك اللحظات القاتلة إلى عبء لم يعد بوسعهما كيفية التخلص منه. ثياب بيضاء وسط موت أحمر وأسود. لا مجال للتفكير بل لا وقت حتى للبكاء. كان عويلهما صامتًا وهما يشيعان الموتى من الأقارب والأصدقاء ممن جاؤوا ليشاركهما فرحتهما، التي جهزا لها كل هذا الحفل الذي كان جميلا حتى لحظة المأساة، التي لم تكن متخيلة. لم يصمد كل هذا الفرح أمام القاعة التي أعدت للأفراح قبل أن تتحول بلحظات إلى قبر اتسع لأكثر من 100 جثة. ماذا ينفع الكلام بعد كل هذا الذي لم يكن متوقعًا حصوله حتى على مستوى حسابات القدر حين يكون الأمر قضاء لا راد له. وهنا قد تختلف الحسابات فقد يكون ما لا راد له، ولا ممكن التنبؤ به أنَّ زلزالا كبيرا وقد وقع في تركيا قبل شهور وفي المغرب قبل أسابيع. لم تتوقعه حتى أرانب قسطنطين جورجيو وساعته «الخامسة والعشرون».
 إختلف الأمر بالحمدانيَّة. لم يكن زلزالا غير قابل للتنبؤ, ولا إعصار مثل دانيال يقترب من بعيد حاملًا معه كل نذر موته وفواجعه. ما حصل بالحمدانيَّة صناعة فساد تحمل علامة تجارية واحدة عديمة الأخلاق والضمير، وهي «صنع في العراق». كل شيء نستورده من دول الجوار، إلا الفساد فهو المنتج الوحيد الذي نتفنن في أساليب صناعته وحسب الطلب. لا يحتاج أن نحمّل أحدا المسؤولية. دعوا صاحب القاعة فلم يعد سجنه نافعا. دعوا أهل «الكوشة والكيكة والألعاب النارية» على حالهم, فهم مجرد أدوات في ماكنة ضخمة تستهلك أموال العراقيين ودماءهم. الموتى لا يعودون. الحساب عائد لما تبقى من ضمير لا عبر إجراءات، مهما كانت شدتها لا تساوي عذاب عريسين كل جريرتهما أنهما لم يتمّا.. رقصة الموت
 الأخيرة.