محمد طهمازي
«إنَّ كلَّ ما في الوجود جميل في عيني الفنان سواء كان طبيعيًّا أو من إنشاء الإنسان، إذ إنَّ بصرهُ النفّاذ يلتقط كلَّ ما في الوجود ويعبّر عنه بطريقته الخاصة. إنَّ الفنان وهو يبث الحياة في الكتل الصماء التي يصنعها الإنسان داخله وخارجه يراها كتجربة ستثري روحه. نشوته بالحياة واللون مرعبة في بعض الأحيان، لكنّها لا تزال مصدرًا للسعادة، لأنّها العشق المستمر للحقيقة».
«النحات الفرنسي أوغست رودان».
جرت العادة أن نرى الانسلاخ الذي يعيشه الفنان العراقي عن بيئته الأم حينما يقطن في الغرب، أو أنّنا نراه يدخل في حالة تمثيليَّة من الحنين الساذج للوطن فيقدم أعمالًا أشبه ما تكون بسوق الهرج فيها كل شيء من «سكراب المواطن والوطن» لكن ليس فيها ما يمت للحياة في الحقيقة.
إنَّ صدق الفنان مع نفسه وفنّه يتقدَّم على ما يسمى بأصالة الفنان أو انتمائه لبلاده الذي يعبر عنه في أعماله عبر روحيَّة وعناصر فنيَّة مختلفة. نعم، لا بدَّ للفنان من خزين معرفي وثقافي وصوري وهذا نتاج استيطانه في بيئة ومجتمع ما لسنين طويلة وتفاعله الحقيقي مع كل شيء حوله ثم يعود لينتج من هذا كله أعمالًا فنيّة، وأقول تفاعلًا وليس اجترارًا.
علي حصموت من الفنانين القلّة المتصالحين مع ذاتهم والصادقين في طرح فنهم وهذا يبدو جليًّا في أعماله. إنَّ هذا الفنان برأينا يحمل من الصدق في فنّه بدرجة تفوق الكثير الكثير من فناني الداخل والخارج ممن يعتصرون انتماءهم اعتصارًا او يتمسكون بسطحيته لمجرد تبيان أنَّهم «فنانون وطنيون» وكأنَّ بعثرة بعض الرموز المحليَّة على سطح اللوحة سيجلب هوية مفقودة أو يستجدي حنينًا مصطنعًا، إنَّه مجرّد ابتذال... وهو أكثر واقعيَّة في التعبير الفني من أولئك الذين يلجؤون للتقليد الأعمى لكلِّ ما هو شائع من تقنيات ومدارس في البلد الذي يعيشون فيه، اغترابًا، ليُظْهروا للمتلقي الغربي مثلًا بأنهم ينتمون لبلده وليسوا أجانب ينتمون لبلدانهم الأم.. عقدة نقص.
لو عدنا إلى عقود الفنانين المستشرقين لوجدنا أن أعمالهم تحمل من الانتماء لأجواء وحياة تلك البيئات الشرقية التي عاشوا فيها بدرجة من النادر أن تجدها لدى الفنانين من أبناء تلك البلدان لليوم ولأسباب عدة منها أنهم تجرَّدوا في رؤيتهم الفنيَّة للمكان والإنسان وتفاصيل الحياة وكانوا شغوفين كل الشغف بنقل كل ما يرونه بأقصى ما يمكن من التقنيات الفنية والإنشاءات الأكاديميّة وكانوا في أغلب الأحيان لا يحملون قناعات مسبقة وقوالب يريدون إسقاطها على الواقع في تلك البلاد إلا روح تخيلاتهم الرومانتيكية التي عمَّقها أنّهم سُحِروا بتلك البلاد حتى خرجوا عن بداياتهم الرومانتيكية تلك وغاصوا في حياة الشرق بل غرقوا..
إنَّ علي يحمل ذات الروح التي حملها أولئك الفنانون لكن هنا بحال معاكسة فهو قادم من الشرق الى الغرب ليرسم، فكان أهلا لرسمها تقنيًّا وكان صادقًا كل الصدق ليس فقط في نقل أجوائها بل وأبدى مهارة عالية في استخدام التقنيات المناسبة لمنح الجو المكاني روحه الزمانيَّة، وزمانية المكان الغربي هي العنصر التقني الذي يحاكي روح العصر الغربي مثلما كانت تقنيات الفنانين المستشرقين لا تبخل في ضخ عصارات عجينتها اللونيَّة المبهجة التي أعطت كل من شاهدها في ذلك الزمان من أبناء الغرب روح ودفء وتنوع ورائحة الشرق الرائعة.
يتجاذب الحياة الغربية اليومية أمران رئيسيّان أولهما الجري السريع ومطاردة الفرص وكسب العيش لإبقاء المواطن قادرًا ليس على الحياة بل على دفع الضرائب في عالم رأسمالي لا يكف عن الحركة والتوسع العمراني عموديَّا أكثر منه أفقيًّا.. الأمر الثاني هو اختطاف أيّام الراحة والاستجمام تحت أشعة الشمس وسط الطبيعة لتجديد نشاطه والعودة لمنطقة الإجهاد والصراع على اصطياد المكاسب لتلفه دواليب ماكينة العمل ثانية.
ورغم ذلك تبقى داخل علي حصموت روح الشرقي المتقدة الألوان التي تبحث عن أي مجال أو حتى ثغرة لتسكب من شلال طيفها الملوّن بكل راحة مضفية على الجو الذي تسوده مسحة الألوان الميتة بعض الروح التي يرى العقل اللاواعي لدى علي أنّه هو ذاته تلك الروح. كما نراه يحتفي بمشاهد الشمس في حقول الفاكهة كمن وجد شيئًا أضاعه من بلاده وأهله وزمن يسكن في الحلم البعيد فيلهب اللوحة بألوان الضوء لتظهر البرتقال والتفاح والليمون كأنّه شموس معلَّقة في ثريّا عملاقة ووريقاتها جواهر من حكايات ألف ليلة وليلة ظهرت من مغارة الجن في ظهيرة عراقيَّة
باذخة.