اللغة وحقائقنا الضائعة

ثقافة 2023/10/02
...

  ياسين طه حافظ

من هم رهن الكلمات ورهن إشاراتها، أو إيحاءاتها؟، هم نحن الذين نمتلك، من دون كل المخلوقات، منظومة تعبيريَّة اسمها اللغة. اللغة، كما يقولون، تلك الأصوات التي اتخذت أشكالا أو صارت علامات فأنظمة تواصل وتآلف، بينها وبيننا نحن الذين أطلقوا الأصوات. لعلَّ اللغة هذه، واحدة من أعظم إنجازات الإنسان، أهم الإنجازات فعلا في تنظيم حياته وتمثيلها. نحن نتكلم أو نكتب، وفي هذه العملية نودع أنفسنا، نودع رغباتنا واهتماماتنا في هذه الوحدات التنظيميَّة، المنطوقة أو المرسومة، لنكمل مسيرة حياتنا ولينتقل محتوانا، في الصوتية والرموز، إلى العالم.
ننتقل بتوليد معانٍ. فما هو المعنى، هذا الذي نعتمده في انتقالاتنا في الحياة وبين الناس؟، ما هو المعنى الذي يجعل منا أحياء لغويين ويجعل من الألفاظ ممرات رؤية ووصول؟، نحن في الكلام وفي الكتابة نريد هذا الذي يسمى «المعنى».
يصف «ستيفن أولماك» بأنَّه «علاقة متبادلة بين اللفظ ومدلوله» وهو رأي من جملة آراء أفتى بها علماء اللغة. نحن نقول: حسناً، كيف تنتج هذه العلائق معنى؟، وقد اعتدنا على رصف أو جمع أو صناعة «لقاء» بين لفظ ولفظ؟، ليس هذا حسب، فنحن نقوم بأكثر من هذا. لأنَّ اللفظ ليس منقطعاً، اللفظ يستدعي مدلولاً أو مقصوداً. فكلمة كتاب ليست لفظة وحسب، هي تذكِّر أو ترسم في الذهن، أو تصوّر ذلك الشيء المعروف لنا، باسم كتاب. ومعنى كتاب يستدعي لفظة تدل عليه أو هو يذكّر بها، وصور الكتاب مختلفة!، هذا ما نعرفه ويقول به علماء اللغة. وهذا ما يتم حين نقول نجم أو موقد أو مصطبة أو كمثرى. نحن نطلق الكلمات التي تدل عليها تلكم المفردات.
وما يهمنا الان وما يثيرنا ايضاً، وما يمنح انسانيتنا قيمة أخرى، وقيمة غير محدودة، هو أنّنا نعيش في الجو الذي بين اللفظ ودلالته، نحن نعيش في المابين. الآخر منا يتوزعه اللفظ والمعنى!، المعنى ليس تكويناً خارجياً ولا أيضاً مستقلاً. المعنى حاصل تلاقٍ بين الكلمة وما تدل عليه. وبين ما تدل عليه الكلمة ولفظها، لفظها بتاريخه ومكنونه..
سواء اعتمدنا المنهج العقلي النفسي أو المذهب السلوكي في الاثارة والاستجابة أو الفعل (اللفظ) ورد الفعل، نحن صرنا ضمن الفعل الآلي، أجهزة ليس ضرورياً ان تكون عاقلة. الايجابية الخاصة بالحيوية الإنسانيّة تضاءلت هنا. تمّ رفض هذا المنطق في التحليل، وهو منطق أولماك، رُفِضَ ان نكون فقط نتائج المواقف السابقة واللاحقة (وما اسماه أهل اللغة مردودها). ثم ان المعنى ظل وسط هذين الطرفين. وهنا نسأل ثانية: أهكذا نحن نتائج الحوادث والاستجابات ولسنا بكل انسانيتنا وآدميتنا مصادر فعل؟، هكذا، المعنى خارجنا ونحن نتوسل المناسبة أو الصدفة لاستحصاله؟، هكذا المعنى اللغوي يتأسس على مواقف ونحن من بعد نتأسس على المعاني اللغوية؟، ليس مقنعاً هذا، ان حضوراً انسانياً يتأسس أو ينتج من مجموعة الخصائص والميزات اللغويَّة التي هي أساساً أصوات وتنظيمات صوتية نحن بدِرْبة طويلة صنعناها. ليس مقنعاً ان تمثلنا تنظيمات لغوية بخصائص معروفة. امر ليس سيئاً، ولكنه على سماحته، يبقينا نتاجاً لفظياً، وان هو نقلنا من حيز إلى آخر. فقد بقينا في الوسائط اللغوية نفسها، وفي كل الأحوال نتاجا!.
ما يثير التساؤل من جانب آخر، هل يعقل ان تكون حياتنا: عيشاً، حركة، رغبات وسطاً بلا ارادة فاعلة بل تتحكم بنا تصنيفات واحكام النحو وجمود المعجم شديد الحزم وموسيقى الكلمة، صوتية حروفها، أو انزياحها من مكانها، تقديماً أو تأخيراً أو حذفاً، فنحن نهجس وجودها ونقدره في ذلك الخط الذي رسمته الكلمات نفسها، وما نسميه سياقاً، أو في حال كونها عبارة أو جملة؟، بهذا تكون أفكارنا وفلسفتنا وطموحاتنا وحيوية تعبيرنا عنها، كلها عالم آخر صلتنا به تتوقف على مدى الاتفاق مع لدى الآخر، من مستجيبات لما أبديناه. بتعبير آخر، على استجابات المقابل، أو استجابات اللغة عنده ما دمنا اعتمدنا اللفظيَّة لا الإنسان.
يقول علماء اللغة: «الكلمات لا تعيش منعزلة في نظام اللغة، ولكنها أنواع من المجموعات ومن التقسيمات وهذه يرتبط بعضها ببعض بشبكة من العلاقات المعقدة وغير المستقرة. علاقات بين الالفاظ وعلاقات بين المداليل وعلاقات تشابه وعلاقات أخرى..». طبعاً نحن نشعر بكل ذلك بوساطة آثارها أو من تلك الاثارات. والثروة اللفظية الفاعلة هي مجموع هذه الشِباك والعلائق المترابطة. منسجمة هي أو غير منسجمة. هذا يعتمد على ما تتلقاه ذائقتنا وحاجتنا الخَبَرية وبصيرتنا. واللغة في حال كهذه بعيدة عما نحس أو نرى أو تتذوق. هي ليست بعضنا ولسنا بعضها وما بيننا صلات آنيَّة تختفي بانتهاء الكلام وانتهاء الكتابة.. نحن ايضاً قد نبتعد بسبب تعدد أشكال المعنى المتولد وقد نصغر ونتضاءل بسبب معنى آخر. ولذلك يلجأ الانسان أحياناً إلى تغيير المعنى، بتغيير المنطق اللغوي، لينجو أو ليكسب أو لكي لا يموت.
عبر اللغة والحديث عنها كشفنا عن تكونات أخلاقنا وفعلها فيما نسميه أو نكتبه أو نقوله. ومثل ذلك فيما يسمعه أو يكتبه أو يقوله الآخرون. نحن السادة «العظام» كما نظن، أسرى مزاج وأصول اللغة ورهينتها. فلا عجب أني في الكتابة استرضي الكلمة واحرص على ان تكون في مكانها المريح الذي تبدو فيه راضية غير مستاءة ولا تظهر غضباً أو ما نسميه نشازاً!
لستُ لغوياً، وان كان لي بعض إلمام ومتابعة أو قراءة. وحين بدأت الكلام ما ظننتني أصل إلى منطقة شائكة تخيّرني أما أن أنتمي لنفسي أو أنتمي للغة فأضيع.. مما بدا حتى الان نحن أشبه بالأرواح الهائمة لا أجساد لها، أو أجسادها عند سواها، والأصوات وحدها المشتركة والتي تمنح وجوداً ومعنى.