أنثويَّة الخطاب في غرف علويَّة

ثقافة 2023/10/02
...

 أ.د. سعد التميمي

 بالنظر لما تواجهه المرأة في مجتمع تغلب عليه الذكوريَّة، فإن بعض الشواعر يلجأن إلى التعبير عن وجودهن الأنثوي لتأكيد حضورهن الفاعل في الساحة الشعريَّة، فطبيعتهن الرقيقة وعاطفتهن العالية يدفعهن إلى الكتابة بعفوية وتلقائية لينفتح الخطاب الشعري الأنثوي على الذات الشاعرة والتعبير عن رؤيتها الخاصة لما تواجهه من أحداث ومواقف انطلاقا من التعالق بين النص ومنتجه، لينفتح الخطاب الشعري على آفاق ثقافيّة وحضارية تعكس جدليّة العلاقة بين القصيدة والأنثى بناء على التماثل من خلال التفاعل بين الذات والواقع والتعبير عن مواقفها اتجاه كل ما يحدث، وهذا يتطلب  تقصي مستويات الأداء في القصيدة الأنثى التي تؤكد من خلالها الشاعرة تمسكها بهويتها.
 وقد كان ذلك في مجموعة (غرف علوية) للشاعرة الأردنيّة مها العتوم، التي انطلقت تجربتها نهاية القرن الماضي، واتسمت بعمق الدلالة وسعة الثقافة والاحساس العالي بالإيقاع ودلالاته، وكسر أفق المتلقي بصور شعريّة تقوم على الانزياحات التي تحقق استعارات فاعلة ومؤثرة تهيمن عليها عاطفة الأنوثة التي تلامس الواقع بأوجاعه وأحلامه بلغة شفافة تتسم بجمال التعبير وديناميته وتتفاعل بإحساسها الأنثوي الذي يتحدى العراقيل، لتؤكد الذات الأنثويّة حضورها في رسم الجمال ومحاكاة الواقع بأحواله المتغيرة.  
 تأنيث العنوان وتجلياته في القصيدة: أولى مظاهر الأنوثة في (غرف عالية) العنوان بوصفه عتبة تقوم بدور موجه قرائي يمهد للمتلقي الولوج للقصائد والكشف عن دلالاتها وجمالياتها، فكلمة غرف بصيغة الجمع ووصفها بالعالية تحيلنا للدلالة القرآنيَّة لها، فهي المكان العالي من البناء، وقد سميت منازل الجنة غرفًا «أولئك يجزون الغرفة بما صبروا» ولم تبتعد الدراسات الحديثة عن هذا التأويل، إذ يرى لوتمان أن المكان العالي ذو قيمة عالية بعكس الواطئ، ولما كانت مفردة (غرف) تدل على الجمع فإنها تحيل للبيت وهو المكان الأليف الذي ولدنا فيه والمحفور بشكل مادي في داخلنا بحسب باشلار، ووصف الغرف بالعالية يحيل إلى أنثوية الخطاب.
وتقسم الشاعرة قصائد المجموعة (48 قصيدة) على خمس غرف (غرفة الشاعرة، غرفة العاشقة، غرفة الأم، غرفة العارفة، غرفة الريح)، ولم تكتفِ بذلك بل وظفت الأنوثة في معظم قصائد الديوان على مستوى العنوانات والمتن مثل (شاعرة عبرت من هنا، غرفة سرية، فتاي الذي في القصيدة، معجزتان، حجرة فارغة، أكثر من امرأة، دموع النساء، سيدة الوهم، دموع النساء، غيمة)، مما يؤكد مقصديَّة الشاعرة في اختيار نسق شعري يعبر عن رؤية أنثويَّة، تتحرّر فيه مما يمكن أن يحدَّ من حريتها، وهي لم تكتفِ بذلك بل حضرت الأنوثة في الاستهلالات من خلال الإهداء الذي سبقه أربع جمل منفية ومتبوعة بنقاط، وهي (ما غرفت، ما عرفت، ما ذقت، وما كتبت...) ليأتي الاهداء بجملة مثبتة (الى نساء كثيرات جميلات داخلي ومن حولي أجملهن أمي) وعند الربط بينهما تتشكل دلالة القصر وكأن الشاعرة في هذه المجموعة ما كتبت القصائد إلى للمرأة التي تمثلها ذات الشاعرة من جهة والنساء من حولها وبشكل خاص أمها، ومما يؤكد ذلك اختيارها مقولة الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث (أنا أكتب فقط لأن هناك صوتًا في داخلي لن يسكت) ففي تمثلها لهذا القول تريد التأكيد بأن الأنوثة حاضرة وفاعلة ولن تسكت وهذا ما تكشفه قصائد الديوان، وبذلك تكون الوظيفة الدلالية الضمنية المصاحبة حاضرة في توافق العتبات (العنوان والاستهلال) مع مضامين النصوص الدالة على عالم الأنوثة، وانفتاحه على تأويلات دلالية متعددة، فقد تحيل الغرف إلى الرغبة بالانفراد مع الذات أما وصفها بالعالية فيعكس رؤية الشاعرة العتوم لما يحط بها وهي رؤية أنثويّة تعبر عن حال المرأة بشكل عام.  
لم تقتصر تمثلات الأنوثة على العتبات بل تغلغلت في متون القصائد من خلال لغة شفافة تشع بالعاطفة الرقيقة تستثمر فيها العتوم خصوصيتها الأنثويّة في التعبير عن رؤيتها الفكريّة وطموحاتها لتتجلى صورة المرأة في خطاب اتخذته الشاعرة وسيلة لإثبات وجودها، وكسر القيد الذكوري المفروض على اللغة، لتترك بصمتها في المتن الشعري العربي، ففي قصيدة (شاعرة مرت من هنا) تنتقل الشاعرة من ضمير الغائب (مرت) في العنوان إلى ضمير المتكلم (عرفتُ، أعرفُ، أسلكُ، أضيعُ، أمرّ أنسى، أتذكرُ، أرسمُ، أتسلى، أعلو، نمتُ، أموتُ) لترسم من خلال هذه الأفعال سيرتها في صور شعرية وتأملات امرأة تبحث عن هوية، وتجعل من القصيدة بيتًا لها فهي تشبه حالها بالأشجار تارة وبالأرجوحة تارة أخرى لتعلو وتتأرجح الدلالات في القصيدة بين الأمان والخوف وبين السعادة والحزن، فهي ترسم مسار رحلتها في الحياة رغبة في اثبات الوجود فتقول في الجزء الأخير من القصيدة:                                                                                               (سأرسم خطين/ يعبر بينها العمر/ كالنّهر/ خيطًا رفيعًا من الماء/ ألضم فيه الحصى/ ويصير طريقًا).
الشاعرة عبرت من هنا:(الحصى خطواتي/ وتلك الخطوط على الماء)
فمن خلال المؤشرات اللفظية والأسلوبية (نهر، ماء، أرسم خطين، خطواتي) وتوظيف التشبيه في التعبير عن خلجات الذات (كالنهر/ يصير طريقًا/ الحصى خطواتي) فجعلت من النهر معادلًا موضوعيًا للتفريغ النفسي، وحيزًا يتغير بحسب الحالة الشعورية لتعبر الروح الأنثوية عن وجدان الشاعرة ومواجهتها لسؤال الوجود في إيحاءات وصور باللون الأنثوي الواضح الذي يتكرر في قصيدة (هذا الشتاء): (سوف أكتب هذا الشتاء/ أغاني عن الحب/ مبلولة/ مثل قمصان عشتار/ يمضي الشتاء/ وتبقى الأغاني/ كوسم البخار/ على سطح نافلة باردة/ ثمة امرأتان تحاورنا).. (في الخريف: - لدي مشاريع نيّئةٌ/ في الكتابة/  لا تنضجيها../ - مشاريع غامضة في القصيدة/ - لا تكتبيها).  
في هذه القصيدة تتجلى الأنثوية في المتن فتتعدد الأصوات في الحوار (ثمة امرأتان تحاورنا) وهو حوار ذاتي بين أنا الشاعرة وذاتها يتضح فيما بعد (تديران ظهري وتختصمان) فالفعلان يشيران إلى (أنا الشاعرة وذاتها) ويتجلى ذلك تصوير تراجع أحد الأصوات وبقاء الآخر (احداهما ستنام وتبقى التي فيَّ قائمة قاعدة) ويشير القيام والقعود إلى القلق والحيرة وفي القصيد علامات سيميائية تدل على الأنوثة مثل (عشتار، الحب، امرأتان، النوم، الصحو، الطبخ، امرأة ماطرة، الجسد، حلو، أثير، مثير، الشاعرة) فالشاعرة تتحدث تصور ولادة القصيدة بعد مخاض وصراع داخلي لتتماهى القصيدة بما تقدمه من رؤى مع الشاعرة لتتسم اللغة والصور بالأنثوية، فالشاعرة تعبر عن نفسها بثقة كبيرة عمق الدلالة وجمال العبارة وحيويَّة الايقاع، لذلك نجد معظم قصائد هذا الديوان تؤكد أن من كتبها امرأة أرادت أن تصور مشاعرها ورؤاها  لحظة الكتابة، مما يجعل المتلقي يلمس فيها نكهة عالم الأنثى، في كثير من تفاصيله فالنص هو الابن الشرعي لصاحبه.