الحياة أيضاً عمل شاقّ

ثقافة 2023/10/04
...

أحمد عبد الحسين

رواية السوريّ خالد خليفة “الموت عمل شاق”، قرأتُها قبل سنوات وأنا خائف، لأني منذ بدء الأحداث العاصفة في سوريا عاهدتُ نفسي في الخفاء أنْ أبقى محافظاً على صورة سوريا التي كانتْ بيتي طيلة أكثر من إحدى عشرة سنة متواصلة هي فترة فتوّتي وشبابي. دخلتها قادماً من منفاي الإيراني وأنا في الثانية والعشرين من عمري. آوتني سوريا ولم تطلب مني شيئاً مقابل ذلك. وحين كان عراقيو الخارج المعارضون يسمّون أوطانهم المؤقتة منافي كنت أضحك في سرّي لأنَّ سوريا لا يمكن أنْ تكون منفى لغريب. ثم عرفتُ يا للأسى أنها منفى للكثرة الكاثرة من أبنائها.
وحدستُ أنَّ رواية خليفة ستمحو صورة سوريا المتخيّلة وتضع مكانها صورة أخرى هي إلى الحقيقة أقرب، فسوريا الأيقونية الوادعة المترعة برائحة الياسمين التي ترسخ جزء كبير منها بعون من إعلام السلطة حيث لم يكن إعلام سواه، لن تجد لها أثراً في لغة خليفة البسيطة الواضحة المباشرة التي لا تغمغم وهي تقص حكاية ما جرى، ولا تفتعل شاعرية من استعارات ومجازات لتخفيف وطأة الواقعة.
تبدأ الرواية بمشهد عبد اللطيف السالم وهو يحتضر، وقبل أنْ يُغمض عينيه ينتزع تعهداً من ابنه الأكبر “بلبل” بأنْ ينفذ وصيته ويدفنه في قرية طفولته “العنابية” الواقعة على جبل محيط بحلب.
والرواية سرد متواصل يصف محنة إيصال جثة الأب إلى مثواه الأخير ليدفن بقرب زوجته. ستمرّ الجثة على نقاط تبحث في الهوية المخبوءة في ضمير الإنسان قبل بحثها في بطاقة تعريفه، وسيطلّ المشيّعون على فصائل تتقاتل في مدن كانت للحياة فأصبحت ثكنات موت، سيقف الأبناء مع جثة أبيهم على حواجز كثيرة لجيوش تحمل الأسماء التي تطالعنا يومياً في نشرات الأخبار، جيوش تتغير مواقعها بحسب “الانتصارات” التي تحققها في هذه الهزيمة الكبرى الموحدة.
في بلدان غارقة بالمآسي إلى حلقومها كسوريا والعراق، لا يعود للتراجيديا من أهمية تذكر، تفقد فرادتها، لأنَّ التراجيديا تفترض قدرتها على تمثل الحدث المفجع وجعله معطى تطهيرياً، ترسم للجرح حداً وتجعله أمثولة ليبرأ. لكنَّ المأساة الحقيقية تتهرأ فيها التراجيديا لكثرة القصص الصغيرة التي تكوّنها، وهي قصص مستحيلة التصديق لفرط واقعيتها.
في كلِّ المدن والقرى التي تمرّ فيها جثة الأب تلحظ أناساً أحياء ولكنهم يسيرون كالموتى فائضين عن حاجة العالم، إنهم جثث كجثة الأب التي تفسّخت وأرادت الكلاب مراراً أنْ تنهشها.
الرواية كلّها رثاء للجسد الإنسانيّ المُهان حياً وميتاً حين يكون لا نفع فيه. فالجسد الممجّد هنا هو الجسد المهيأ للفتك عند جيوش تختلف عقائد أصحابها لكنهم يشتركون في حقيقة أنهم كلّهم ليسوا سوى أصابع تضغط على الزناد.
لكنَّ في الرواية نسغاً وإنْ كان ضعيفاً يهمس بتمجيد الحياة وإبقاء فسحة للحبّ، كما أنَّ فيها وعداً بالمستحيل. جثة الأب تصل إلى القرية لكنَّ الوصية لا تنفذ بحذافيرها كما أراد فيظلّ بعيداً عن زوجته. لأنَّ المستحيل إذا تحقق بمعجزة ما فلن يتحقق كما نحب، بل بتدابيره الخاصة به، وهي تدابير نحن أضعف من أنْ نتحكم بها.
بسهولة يصل من يقرأ الرواية إلى أنَّ الأب هو سوريا التي ماتتْ ويحاول أبناؤها دفنها في الأقل بأدنى الخسائر. لكن إذا كنت محباً لسوريا مثلي فستهز رأسك سريعاً لتنفض هذه الفكرة وتنتظر معجزة في الغياب تنتظر.
أجهزتْ الرواية على صورتي الخاصة عن موطن شبابي، لكنها لم تفعل ذلك بالطريقة التي تفعلها نشرات الأخبار الفظة، بل بكثير من الجمال والأسى الشفيف واللغة الواضحة والسياحة في نفوس توحشت وخرائط تغيّرتْ كثيراً كثيراً.
يوم السبت الماضي توفي خالد خليفة. وهذه الكتابة ليست رثاء له بل لنا نحن الأحياء الموتى.