حسن الكعبي
في سياق دراسته للطبيعة البشرية وما ينتج عنها من تضخيم للذات والسقوط في فخاخ الوهم، يشخّص عالم الاجتماع الكبير – علي الوردي - حالة لافتة في هذا المجال ضمن المشهد الثقافي العراقي؛ إذ يقول: “ ابتلينا في الآونة الأخيرة بفئة من الناس يريدون أن يكونوا كتابا ونقادا للأدب، برغم أنوف الناس جميعا، بينما هم لا يعرفون من الأدب سوى الشتيمة والنقد اللئيم.
كتب أحد هؤلاء، منذ زمن غير بعيد، مقالا في إحدى الجرائد المحلية أشار فيه إلى نفسه وأنه قد صار، والحمد لله، كاتبا يشار إليه بالبنان. وكانت حجته في ذلك أن له خصوما عديدين. يبدو أنه سمع عن الكتاب الكبار من أصحاب الأفكار والمبادئ الجديدة، وكيف كثر الخصوم عليهم، فأحب أن يكون مثلهم. ولعله ظن أن كثرة الخصوم من مستلزمات النجاح في الكتابة، فأخذ يشتم الناس لكي يكون كاتبا ناجحا. ونسي أن هناك فرقا كبيرا بين الخصومة الشخصية والخصومة المبدئية. في مقدور أي إنسان، مهما كان تافها، أن يبول في بئر زمزم وأن يخلق لنفسه الصيت العريض. ولكنه صيت زائل لا يستطيع أن يصمد طويلا تجاه أولئك الذي يهدمون الأوثان” .
يعلق الدكتور نصير فليح في كتابه (الرؤية والطرافة ) على هذا التشخيص: “ما يذكره الوردي هنا يتنامى في زمننا بفعل وسائل الإعلام والتواصل، فاليوم يمكن لأي كان إن استطاع الحضور المنتظم في التجمعات أو وسائل الإعلام والتواصل، جمع المتابعين وتجميع الأتباع، بالعلاقات أو المجاملات أو المناكفات، وأن يمسي بالتالي “نجما” حتى لو خلا من أية مبررات للنجومية”.
إن ظاهرة تضخم دائرة الوهم كانت تستمد مغذياتها من أفق الذات الموهومة, أما في عصر الميدياء ومواقع التواصل الاجتماعي أو المجال العمومي، فإن مغذياتها بدأت تُستمد إلى جانب الذات من موضوع يقع خارجها، يتمثل بجمهور المعلقين والمعجبين، وبذلك فإن الظاهرة اكتسبت خطورة مضاعفة، فبعد أن كانت الذات الموهومة تتطاول على رموز ثقافية وتجردها في سياق من التعميم الاختزالي من إنجازاتها الإبداعية، إذ يغدو في سياق هذا التعميم مبدعون كبار مثل (ماركس) أنه يعتاش على نظريات غيره، وجورج طرابيشي لا يرقى إلى مستوى فكري يؤهله لاكتساب صفة الناقد أو المفكر، وهو أيضا لا يجيد الترجمة ومارس عليها كبرى الخيانات، وأدونيس يعاني من سوء الفهم في تمثل الأفكار، وعبد الله الغذامي كائن اعتباطي، وغير فاعل في المشهد الثقافي، وعلي الوردي مؤسس للجهل وأفكاره تسطيحية ولا تعدو كونها حديث مقاه، وسرديات محمد خضير هي حكايات عجائز، وفاضل ثامر يعاني من اضطرابات منهجية واصطلاحية ... إلخ من التطاولات على الجهود والمشاريع النقدية المؤثرة والفاعلة في المشهد الثقافي العام ) .
هذه الأحكام الاعتباطية انتقلت من التطاول على الرموز الثقافية إلى التطاول على النظريات والظواهر الثقافية والأدبية والحط من شأنها، ومن أفق هذه الإشكالية صدر التصور الدارويني للشعر، ويقصد به ذلك النوع من التصورات المنفلتة على الصعيد المنهجي والعلمي والخارجة عن انضباطهما، وهي بالتالي تصورات إسقاطية تستعين بالنظرة الدونية للنوع وللجنس البشري أو الحيواني أو النباتي ضمن مفهوم النشوء والارتقاء وإسقاطهما على الشعر، وهذه التصورات أو العبارات التي تتعامل مع الشعر من منطلق الدونية تجد تمثيلاتها على صفحات فيسبوك، الذي أصبح متنفسا كبيرا للموهومين وأنصاف المثقفين، ممن لا يخضعون إلى أي ضوابط علمية أو منهجية أو منطقية في إطلاق الأحكام على الفن أو الأدب أو الثقافة بشكل عام، ومثال ذلك العبارة المفككة والمستفزة (حلم أن يكتب القصائد وعندما كتبها أصبح لديه ذيل)، التي تضع الشعر والشاعر بمرتبة دونية حيوانية قردية كما تلمّح إليه مثل هذه العبارة المتهافتة.
إن المشكلة لا تتعلق بهذه العبارة بقدر تعلقها بما حظيت به من إعجابات وتعليقات مجانية غير مدركة، أن الهدف من وراء إطلاق هذه العبارات هو الاستفزاز ومحاولة إلفات النظر، بوصفها عادة تمارس من النكرات الذين يحاولون أن يزجوا أنفسهم في المشهد الثقافي من دون مؤهلات تذكر للدخول ضمنه، والذي يعد من أهم مؤهلاته التحصن المعرفي والنظرة الموضوعية ومنسوب الأخلاق العالية في إطلاق الأحكام، والابتعاد عن الشخصنة وانفعالاتها المسيئة.
والأمر أحيانا يتعدى ليشمل بعض ممارسي النقد الذين يتورطون في الانسياق وراء هذا التصور الدوني للشعر، من خلال اتباع الصيغة الكلاسيكية الباهتة في التفضيل، وجعل الأجناس في هرمية يكون الشعر في أسفلها، مع أن الشعر كينونة جمالية كبرى وداخلة في منظومات حضارية، وهو عملية إبداعية تتطلب موهبة كبيرة، شأنه شأن بقية الأجناس الثقافية والأدبية التي هي عمليات إبداعية تتطلب مواهب كبيرة واستثنائية .
إن التفضيل أو المفاضلة بين الأنواع والأجناس الأدبية أو الفنية هي مجرد خرافة ابتدعها أصحاب التصورات الشوفينية والانحيازية للجنس أو النوع الذي يكتبون به، فالرقي الثقافي يفرض الانحياز للخلق الإبداعي سواء تحقق في الفكر أو العلم أو الأدب من دون تفضيل لهذا على ذلك، فالثقافة تحمل رسالة واضحة وهدفا محددا هو محو الطبقيات والتمايزات في كل شيء، وهذا هو نضال المثقف الحقيقي ورسالته من الاشتغال في الثقافة, والانحياز الأحادي يجد مناطق كمونه المحبب عند أشباه المثقفين والأميين المحسوبين على الثقافة .
لا يمكن أن يغامر أي كان في إهانة الشعر، لأن الجميع يعرف بداهة أن الشعر كينونة جمالية كبرى وتجسيد لمشاعر إنسانية راقية، يفرض حضوره في الفن والثقافة ( في الأغنية والمسرح والدراما والسرد والفلسفة وفي النقد بل حتى في العلم)، فالأسلوب الشعري هو تلطيف للغة وإخراجها من حديتها وصرامتها العلمية.
إن كبرى التصورات الثقافية استرشدت بالشعر، فمثلا أروع ما كتبه صادق جلال العظم عن فلسفة الحب العذري كان بمعونة من الشعر، وإن أجمل اشتقاقات تيري ايغلتون في نظرية الأدب والثقافة ارتكزت على أشعار إليوت، وإن ناقدا عظيما مثل نورثورب فراي اجترح منهجيات نقدية من أشعار إدغار ألن بو، وأعظم سرديات وليم فوكنر كانت بوحي من سونيتات شكسبير الشعرية، وإن أجمل شذرات نيتشة الفلسفية كانت شعرية بامتياز، وأكبر مثال على عظمة الشعر هو تيد هيوز الذي وضع كتابا نقديا هاما هو صنعة الشعر، الذي اجترح من خلاله تصورات نقدية هامة جدا في صناعة الشعر والدعوة إلى جعله في دائرة مؤسساتية تشمل مفاصل الحياة برمتها، لضرورة الشعر في تهذيب الذوق الإنساني؛ يقول هيوز: “ الكتابة تفتح مغاليق القوى النائمة وتزيح قشرة الثلج في ماء النهر”، كناية عن الكتابة المفارقة بوصفها شعراً خالصاً، فالشعر كائن ثاوٍ في كل بنية وفي كل جنس، فهو جوهر الوجود الإنساني وأساس فعل المحاكاة كما يذهب أرسطو في كتابه “فن الشعر”.