د. نادية هناوي
غاص بيير شارتييه في جذور التاريخ النقدي الغربي باحثا عن أصول السرد زمن الأساطير، وتوصل إلى أن الذي يقول إن الرواية وريثة الملحمة لا يأخذ بعين الاعتبار جزئيا أو كليا إلا الملاحم الهومرية. ووجد ان نقاد الرواية اختلفوا او تعارضوا في تفسير نشأة الرواية ومنهم ايان واط الذي ربط ولادة الرواية بمسالة الفرد الأوربي الحديث، ورأى تودوروف الرواية نوعا أدبيا وهي عند باختين فكرة مقحمة في كتاب رومانسي، وعند ميشيل بورتور أطروحة بحثية 1956 والرواية مصير عند البير كامو 1951 والرواية عمل صادر عن سوء نية عند بلانشو والرواية تجريب عند يوليسس.
ومما أكده شارتييه أن الواقعية ليست أصل الرواية وإلا ما تمت إدانتها منذ عشرينيات القرن العشرين من خلال تجريب العجائبي والسريالي، فكتب اندريه بريتون رواية( مقلوب الواقع) 1928 وألف لوكاش (نظرية الرواية) 1915 ولم تعد الرواية الشكل الأعلى للوعي الأدبي و( في 1950 كانت قد دخلت منذ زمن طويل في عصر معارضة .. فوقف جمهور من النقاد .. ضد مبادئ الواقعية)
وما يميز تنظيرات شارتييه سعيه إلى وضع تاريخ للرواية أيا كانت مغامرات أو عجائب. ومثل هذا التاريخ يحتاج بحثا في ما اتبعه كتاب الرواية من قواعد وما أصدره النقاد من أحكام قاطعة فيما يجوز ولا يجوز. فالرواية ــ بحسب شارتييه ــ فن حر وهي تستعير شكلها من كل الأنواع الأدبية القديمة مثل الحكايات الشعبية وسير القديسيين البوذيين ومن التاريخ والملحمة والشعر الغنائي ولاهوت الأخلاق والفلسفة. وهذه الحرية تجعل( الرواية اقل الأنواع خضوعا لتقاليد الرواية.. فهي امبريالية بطبعها تستعمر وتضم المناطق المجاورة دون خجل)
وعلى الرغم مما في هذا الرأي من نفي لأية تقاليد يؤكدها تاريخ السرد، فانه في المقابل يقر بان جذور السرد لا واقعية ليس فيها ما هو ممكن وغير ممكن. ومن هنا وجد شارتييه ان أرسطو وقع في تناقض وهو يقصي المستحيل واللامعقول واللامنطقي تارة ويطالب الشاعر تارة أخرى بان يشتغل حتى حدود الاحتمالي ثم يصل إلى التسليم فيما يشبه المناقضة( باحتمالية اللااحتمالي)
ووصل هذا التناقض بشارتيه إلى التشكيك في أن تكون( الرواية قبل ولادتها وعلى المستوى النظري الخالص مرتبكة بالملحمة) بل حقيقة الرواية أنها (حقيقة كائن غامض على نحو ما دون أصل صريح.. أعلن عن نفسه يوما ملكا أو حاكما .. دون ان تستطيع تقرير ما إذا كان يكذب أو يخادع أو يعلن ببساطة عن الحقيقة الضخمة والمتناقضة التي تشكله.. وان الرواية بوقوعها في الآن ذاته في ما قبل المحاكاة الأرسطية وما بعدها تعد نوعا مضادا للأرسطية .. أنه ابن لقيط عصامي عملي غير انه منذ ولادته غير المؤكدة كان موسوما بالعلامة النظرية المناقضة لأبوة أرسطو)
ويخلص شارتييه إلى أن العقل الأوروبي هو الذي شكّل الرواية منذ قرون مع أنها ابعد من ذلك بكثير لأنها تجاور الحياة وتتحدى أشكال البوطيقيا. ونقل عن جوليا كرستيفيا قولها إن العصر الوسيط كان خاضعا لهيمنة الدال فكان عصرا رمزيا بينما خضع عصر النهضة لهيمنة المرجع والعلامة كدال ومدلول فكان عصرا واقعيا. وهذه الواقعية هي التي جعلت القرن التاسع عشر عصر الرواية الذهبي فيه انتقل السرد من الرومانسية إلى الواقعية. وبدأت مع تقريظ ديدرو لصاموئيل ريتشاردسون وروايته( جاك القدري) التي وجدها تأتي بعد دون كيشوت كرواية كبرى ويستدرك شارتييه بان هذه ليست رواية بل هي رابسوديا متشكلة من الشغف بالرومانسية. ونضيف إلى استدراكه القول إن الرابسوديا هي تبعة من تبعات الفصل والوصل كتقليد عرفه السرد العربي القديم، وجذوره لا واقعية شفاهية تعود إلى الحكاية الخرافية. ومما توصل شارتييه إليه من نتائج تصب في باب تاريخ الرواية:
1 - أن الرواية قديمة قدم السرد وأن الخيال الحر يشكلها ويجعلها كالارابيسك و(اعتبر الارابيسك شكلا أو صيغة للتعبير تماما وجوهرية للشعر. هكذا أرى المسالة لقد بلغ من عمق تجذر الشعر في الإنسان انه حتى في أقسى الشروط يستمر ..في أزهار البراعم البرية وكما ان لكل شعب موكبه من الإنشاد والحكايات ويمارس أسلوبا من الفرجة مهما كان فظا كذلك حتى في قرننا الذي ما اشد ما يعوزه الخيال وفي الأوساط النثرية ..احسد بعض المنعزلين في دخيلتهم بخيال ذي أصالة فذة وعبروا عنه)
2 -أن الرومانسية لا تتعارض مع الواقعية، مما نجده في قصص الفرسان والحب والحكايات الهزلية.
3 - انه ضد القول إن الرواية تنتسب إلى النوع الملحمي.
4 - الرواية مزيج من السرد والإنشاد وأشكال أخرى وأن سرفانتس(لم يكتب أبدا بطريقة مغايرة وحتى بوكاشيو البالغ النثرية)
5 - ان الرواية تستعيد (سديم عالم الفرسان.. شبح دانتي المقدس من جحيمه.. شكسبير مع سرفانتس .. سانشو من جديد مع دون كيشوت ستكون الارابيسكات حقيقية وهي مع الاعترافات المنتوجات الرومانسية الوحيدة الطبيعية في عصرنا)