د. سافرة ناجي
يتأسس الفكر المسرحي على فعل البحث عن كل ما هو مغاير لراهنيَّة الواقع المعيش، بوصفه الفضاء الفكري الذي يشتبك مع الواقع ويخلخل أنظمته القارة ويزيحها نحو النظام الجديد الذي يبشر به، والمتضمن لمفاهيم ومهارات معرفيّة جديدة، وهذا المفهوم لا تتحقق رؤاه في الخطاب المسرحي، إلا من خلال التجريب، الذي ينفتح على عديد الاسئلة، التي يعيد صياغتها على وفق فرضية جمالية، تحرّك الساكن في النص المسرحي عبر إعادة انتاجه على وفق علة السؤال الجمالي، لفرضية التجسيد البصري التي يقترحها المخرج عبر الوسيط الجمالي الممثل وأسلوب الأداء التمثيلي، الذي يمثل فضاء التفاعل ما بين مساري الاتصال الباث والمستقبل.
الذي يحقق تواصليته بشكل يسير مع المتلقي. مما يحفز فاعلية الاستجابة لارسالية العرض ويدخل المتلقي في بنية التجريب. فإنَّ التجريب هو الفاعل الفكري الذي يحرّك بنى التفكر نحو أفق جديد وكما يعرفه عبد الرحمن زيدان في كتابه التجريب في النقد والدراما بأنّ التجريب جوهر الفكر المسرحي وديناميته، إذ يقول (إنَّ المسرح في العالم أجمع ما كان له أن يتطور ويزدهر ويقدم دهشته المدهشة وغرابته الجميلة في العرض المسرحي لولا التجريب الذي يمارس فعل الحرية ويرفض قيود السلطة الظاهرة منها والخفية). لذلك نقول إنَّ التجريب المسرحي هو في تضاد مع الواقع وسلطاته من سياسة واقتصاد ودين وكل التقاليد والموروثات الاجتماعية. لانه يمارس عليه استنطاقا لما يكون عليه خطابه الجمالي، بوصف الاختلاف هو جوهره الفلسفي. ولذلك لا يمكن أن يحقق التجريب المسرحي رؤيته، إذا اعلن التوافق مع طروحات ايديولوجية المؤسسات. ومن اهم سمات التجريب المسرحي هو التعارض التام مع كل انساقها. لأنّه رؤية في قبح الواقع الذي يمثل سبب الاختلاف ودينامية سؤاله وكما فعل (ابسن) عندما اختلف مع موقف الثقافية الاجتماعية من المرأة ووتغيب حضورها الانساني. ففعل التجريب لا يحقق وجوده من دون أن ينتج مفهومًا مغايرًا يعبر حاجات واشكاليات الانسان ويصبح دالة مادية تؤكد قوة هذا الوجود وتحقق مضماينه الفكريَّة وكينونته الجماليَّة. لذلك التجريب يتخذ له مسارين: المسارالاول هو الكيفية الفلسفية التي تعيد انتاج نص الواقع واشكالياته بمعنى جديد، ويحقق فعل التواصل والتفاعل مع المتلقي على ضوء التدلال الجديد للتجريب كما يقول (الجرجاني)، وهذه الحمولة الدلالية الجديدة لا تتحقق إلّا من خلال والوسائل المادية التي تُمكن من انتاج فعل الدهشة البصريّة والسمعيّة والذهنيّة، لذلك هناك تلازميّة جماليّة فكريّة بين التجريب وفعل التلقي الذي تصفه نظرية القراءة والتلقي بالعمل الفني وتضعه بين قطبين القطب الفني التي وصفته بنص المؤلف/ نص الواقع، والقطب الثاني القطب الجمالي، وهو نص الرؤى الجديدة، كما في نظرية المسرح الملحمي. لذلك يشترط بالتجريب المسرحي أن ينفتح على تعدديّة أنساق التلقي وأسئلة التأويل نحو انتاج المعنى تلو المعنى في متوالية تأويليّة لكسر أفق توقع التلقي، لذا يعد إنتاج المعنى هو السمة الملازمة لفعل التجريب المسرحي في حدّه الفلسفي والمادي. وكما عرفته فضاءات الفكر المسرحي الحديث مثل مسرح اللا معقول والملحمي وطريقة ستنسلافسكي وتيشخوف ومسارح خارج بردواي، وغيرها من أنساق التجريب المسرحي العالمي الذي ينطلق من مفهوم الحرية الفكرية.
لكن التجريب في المسرح العربي تتحكّم به المؤسسات التي تدير هذا الواقع، سواء كانت فكرية ام اجتماعية، لهذا يخضع الى اشتراطات المؤسسة القابضة على الواقع فالتجريب في الثقافة العربية في صراع مع تابوهات السلطة بشتى أنواعها التي تريد أن تخضع كل موجودات الواقع لمنفعتها التي تمحو الآخر وتغيب فعل التلقي، لذلك يغيب امتياز التجريب وجماليّة الفكرة المضادة في المسرح العربي؛ لذا في التشفير والترميز والغموض وسيلة لطرح المغايرة التي تصنع الدهشة وتتجاوز تابوهات المؤسسة، في آن واحد. لذلك تراه في تقدم وإحجام.
فانشغل في مراوغة السلطة عبر الغموض الذي انتج علاقة متشنجة مع الجمهور ومن ثمَّ النأي عن متابعة العروض المسرحية، وبسبب التابوهات التي وضعت كلًا من العرض والمتلقي تحت مشرط الرقيب الذي يمحو اثر الفاعل المسرحي في تغيير مهارات التفكير لدى المتلقي. فكيف للمفكر المسرحي أن يبتكر رؤى تجريب وهو تحت وصاية التابوهات الذي يضع الفكر المسرحي التجريبي في تفاعل منحسر على دارسي الفنون، وينغلق على نخبة من المسرحيين. لذلك نقول التجريب هو حرية التفكير في الارسال والاستقبال له، فاذا غابت هذه الحرية عن طرفي المعادلة الجمالية غاب التجريب واثره الجمالي في طروس الواقع.