مفهوم الاغتراب عند اريك فروم

آراء 2023/10/04
...

حسن الكعبي

يعتقد فروم أن الاغتراب يحدث عندما يفقد الفرد الاتصال بالعالم الخارجي ومع الآخرين، ولذلك فإن فكرة الاغتراب عنده ترتبط بالعلاقات الاجتماعيَّة والانتماء الاجتماعي، حيث يؤدي الانفصال عن المجتمع وعدم الانتماء إليه، إلى شعور بالتبعثر والعزلة وفقدان الهوية الاجتماعيَّة. إنَّ اهتمام اريك فروم بوضع الإنسان في سياق التغول الرأسمالي واغترابه ضمن هذه المنظومة عن منتجاته وعن حريته نتاج استبداد رب العمل، ومحاولته لمعالجة الاغتراب دفعه إلى مراجعة منظورات ماركس الإنسانيَّة لمفهوم الاغتراب،
 ووجد خلال هذه المراجعة أن ماركس أُسيء فهمه من قبل الماركسيين، ولذلك انتقد – فروم - تصوراتهم عن ماركس، وقدم اريك فروم من منظورٍ ماركسي بعد التصحيح، معالجاتٍ لمفهوم الاغتراب ضمن مفهوم المجتمع السوي أو المجتمع العاقل، الذي يغاير تصورات فرويد الذي يعتبر القطب الآخر المؤثر في تصورات فروم النظرية حول مفهوم الاغتراب.
ومن هذا المنطبق أخضع فروم تصورات فرويد للنقد الحاد، فتصورات فرويد حول الاغتراب تكمن ضمن تقسيماته، التي افترضها ضمن ثالوث الهو والأنا والأنا الاعلى، معتبرا الأنا الاعلى ما يفرض من قوانين اخلاقيَّة خارجيَّة يحددها المجتمع ويفرضها على الهو المسؤول عن الرغبة والغريزة، مختزلًا الإنسان ضمن هذا البعد الجنسي، ولذلك فهو يرى أن الإنسان عدو الحضارة، باعتبار أن الحضارة هي قوانين ومنظومات قيم تضبط الرغبة الجامحة، ومن هنا ينشأ اغتراب الإنسان ضمن مفهوم الكبت، ولذلك هو يدعو للبدائيَّة والتوحش، بديلا عن الحضارة كحلٍ لإشكالية
الاغتراب.
وقد انتقد فروم النظرية النفسية الكلاسيكيَّة التي قدمها فرويد، حيث اعتبر أنها تركز بشكلٍ كبير على الجوانب الجنسية والأنانية في النفس الإنسانيَّة، وتجاهلت العوامل الاجتماعيَّة والثقافية والتاريخيَّة في تشكيل الشخصية الإنسانيَّة.
ومن خلال نظرياته، أكد فروم أن الحالة النفسية للإنسان تتأثر بشكل كبير بالعوامل الاجتماعيَّة والثقافية والتاريخيَّة التي يعيش فيها، وأن النزوات الجنسية لا تمثل العامل الحاسم في تحديد سلوك الإنسان، وانتقد فروم – ايضا - فكرة فرويد حول الحياة النفسية، والتي تعتمد بشكل كبير على المفهوم الثنائي للشخصية، حيث جعل فرويد النزوات الجنسية والأنانية على رأس العوامل، التي تحدد شخصية الإنسان، في حين أن فروم رأى أن النفس الإنسانيَّة تتأثر بشكلٍ كبير بالعوامل الاجتماعيَّة والثقافية والتاريخيَّة، وأن الشخصية الإنسانيَّة لا يمكن تحديدها بشكل ثابت ودائم، وإنما يمكن تغييرها وتطويرها عبر التفاعل مع البيئة المحيطة والتاريخيَّة والاجتماعيَّة.
إنَّ مفهوم فرويد حول الاغتراب وإن كان قد فرض بعض تأثيراته على فروم إلى ان ذلك التأثير جاء بسياق مغاير تماما عند فروم الذي يدعو إلى مجتمع سوي يعي ذاته وشرطه التاريخي ويؤمن بالحرية ويتحمل مسؤولياتها.. ولذلك فإن فروم وإن لم يكن ماركسيا فان طروحاته تصدر عن ماركسية وجودية تعتقد بمفهوم الحرية والمسؤولية عنها بالتخلي عن الخوف من
الحرية.
ركز فروم في مجمل كتابته على مفهوم الاغتراب في ظل التغول الرأسمالي، لكنه في كتاب "ما وراء الأوهام " يبدي طرحا أكثر جذرية وعمقًا حول مفهوم الاغتراب فقد طرح فكرة أن الإنسان الحديث قد يعاني من شعور بالفراغ والعدم والشعور بالتحرر، وهذا يؤدي إلى اللجوء إلى الأشياء الخارجيَّة لتحقيق السعادة. ويعتبر فروم أن هذه الأشياء لا تحقق السعادة الحقيقية، وأن السعادة الحقيقية تأتي من داخل الإنسان، من خلال الاستكشاف الداخلي والتواصل العميق مع الذات والآخرين.
ويقترح أن الحل الوحيد لمشكلة الأوهام هو تحقيق التحرر النفسي، والذي يتمثل في الاستكشاف الداخلي والتعرف على الذات والآخرين وتحقيق الاتصال العميق بينهما. ويعتبر فروم أن التحرر النفسي يمكن أن يتحقق من خلال التفكير الناقد والتحلي بالشجاعة والتحرر من الخوف والتقيد بالتقاليد والمعايير
الاجتماعيَّة.
فالإنسان الحديث أصبح يعيش في عالم مليء بالأوهام، والتي لا تعكس الواقع الحقيقي. ويعتقد فروم أن الأوهام تشكل جزءًا أساسيًا من حياة الإنسان الحديث، حيث يعتمد الأفراد على الأوهام لتقديم معانٍ لحياتهم وتبرير أفعالهم واختياراتهم.
ويشير إلى أن الأوهام يمكن أن تؤدي إلى الاغتراب والعزلة، إذا أصبح الفرد محاصرًا في عالمه الداخلي وفقد الاتصال بالعالم الخارجي والمجتمع.
ويعتبر "ماوراء الأوهام" كتابًا مهمًا في فلسفة فروم وعلم النفس، حيث يسلط الضوء على أهمية الحفاظ على الواقعية في الحياة اليومية وتحدي الأوهام التي قد تؤثر في صحة الإنسان وبذلك فإنه يعتبر الاهم بين كتبه، لانه بنى تصوراته على تجاربه الشخصية التي ارتبطت بطفولته من خلال تعرفه على عقدة أوديب في حادثة الرسامة التي ارتبطت بعلاقة محرّمة مع أبيها، وكان فروم يعشقها في مراهقته ومن خلال محيطه الأسري بين أب مزاجي وأم مكتئبة، وما أحاط به من ظروف سياسيَّة, وحروب عنفيَّة مضادة للأمن والسلام تعرف على النزعة الإنسانيَّة في الماركسية, ومن خلال هذين الحادثتين انفتحت رؤيته للعالم، ووصل إلى التعرف على الطبيعة البشرية، من خلال فرويد وماركس، الذي وجد أنهما يقفان على أرضية مشتركة في سياق الموقف السياسي النقدي، الذي تعبّر عنه منهجية الشك في كل شيء والبحث عن الحقيقة، بوصفها تحريرًا للإنسان من الوهم وأنه لا يوجد شيء في الإنسانيَّة غريب عني، وهو منهج يجعل الإنسان ينظر إلى أن أولويات العلم، تكمن في الإنسان ذاته وفي تعرفه على نفسه، وهذه الأرضية المشتركة كانت المهاد المعرفي لاريك فروم، الذي ذهب في رحلة المقارنة بين الفرويدوية والماركسية، وبالتالي انحيازه لماركس، ومع أن فروم أبدى إعجابه بفرويد، لكنه اعتبر ماركس الأهم والأكثر جذرية وأنه لا يمكن أن يقارن بفرويد.
وقد أدى هذا التأثر بماركس إلى تطوير فروم لنظريته الخاصة بالنزوات الاجتماعيَّة، والتي تعتمد على تحليل العلاقات الاجتماعيَّة والثقافيَّة، التي تشكل الشخصية الإنسانيَّة وتحدد سلوكها. ويعتبر فروم أن النزوات الإنسانيَّة ليست مجرد احتياجات بيولوجية، وإنما تنبع من العلاقات الاجتماعيَّة التي يعيش فيها
الإنسان.
يمكن القول إنَّ تأثير فكر الماركسية على فروم كان واضحاً في نظريته الخاصة بالنزوات الاجتماعيَّة وفي النظرية الاجتماعيَّة العامة التي اعتمدها، حيث اعتبر أن العوامل الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة هي المحرك الأساسي للتغيير في المجتمع وتشكيل الشخصية الإنسانيَّة.