معلّمون مجانيون

آراء 2023/10/05
...

  رعد أطياف


من جملة العادات التي تسهم بمعاناتنا هو نكران الآخرين بأي طريقة كانت. في تعاملي اليومي انتبه لأحاديث الناس وطباعهم وأنماط شخصياتهم فانتفع كثيراً بما يقدمونه لي بطريقة غير مباشرة، لكني أنسى الامتنان لهم حتى لو كان بيني وبين نفسي. تدفعنا هذه النرجسية الطفولية إلى رؤية العالم، من خلال أنفسنا فحسب ولا مكان لغيرنا فيه، فتتسع لدينا دائرة النكران للآخرين. لكنّهم لو أخطؤوا بحقنا فيا ويلهم وسواد ليلهم! سوف لا يسقطون من أفواهنا آناء الليل وأطراف النهار، وسنكون أوفياء جدا لعاداتنا. التنكر والعداء لمن قدموا لنا منفعة مباشرة وغير مباشرة لا يجدي نفعاً، فنحن محكومون بشبكة علاقات متصلة وإن تنكرنا لذلك!، ومن يتنكّر لهذا الارتباط ستفوته مشاهد مدهشة وخبرة مجانية في هذا المسرح العظيم.

أفظع ما يمكننا الوقوع فيه هو انتظارنا من الآخرين رد الجميل على ما صنعناه لهم! ولا نتكلم هنا عن صفقة تجارية، فتلك علاقات يتم فيها تبادل المنفعة طبقاً للشروط المعروفة. عن العلاقات الإنسانية أتحدث، وعن أحبائنا الذين قمنا بمساعدتهم وتضامنا معهم في أشد لحظاتهم حرجاً ومنحناهم بعض الدفء والمسرّة والأمان. إن كنّا نعتقد نحن الطرف الوحيد في المساعدة فنحن واهمون، لكونهم ساعدونا كذلك في فهم أنفسنا، ومنحونا الكثير من التبصّر والدراية، إذا لولاهم لكانت أنفسنا يلفّها الغموض. وبدلاً من الشعور بالنكبّة والخديعة، لا بد أن نعمق أقصى حالات الحب فهم معلمونا المجانيون. كل الناس تسهم في خبرتنا حتى هؤلاء الذين يعمقّون من معاناتنا وقديما قيل “إنما تعرف الأشياء بأضدادها”. لقد مررت بحياتي بمعاناة كبيرة وكان الآخرون مساهمين فيها، وبمرور الزمن اكتشفت أنهم كانوا معلمين أصلاء، فقد أظهروا المخفيّ من أعماقي. وقد عانيت منهم معاناة شديدة إلى أن أصبحوا مناطق حب في ذاكرتي. مهما قيل عن مثالية هذا الطرح، يبقى الآخرون نعيما ولو بشكلٍ بعيد، أعني، أنهم يشكلون ثروة هائلة حتى لو كان الأمر على نحو بعيد. فلو تبصرنا ملياً سنرى ما من شيء إلا ويتحول إلى كتاب مفتوح، فما نحتاجه - رغم صعوبة المهمة وغموضها في أغلب الأحيان- هو عبور حالة الجهل لكي نقرأ هذا الكتاب الهائل. يراودنا الإحساس بالغبن حينما يتعلق الأمر بنكران الآخرين لما قدمناه لهم من مساعدة. ذلك الشعور لا يختلف عن الربوبية بشيء تماماً ذلك أن الرب يطلب العبادة كأجر لدخول الجنة ونيل الرضا. وبالمثل وبدافع شعورنا بالأهمية عن الآخرين نغدو أرباباً ونحن نتلوّى من الانتظار عسى ولعل أن يجود لنا الآخر بشيء من التبجيل والثناء على ما فعلناه له. لا نشجع على النكران (فتلك مزية الأموات!), لكن عندما يصل الأمر أن نتنظر أحدهم لرد الجميل يشبه إلى حد ما احتراقك على نار هادئة وأنت في حالة عبادة 

الذات.