الشكاوى والطعون الانتخابيَّة

آراء 2023/10/05
...






 القاضي قاسم العبودي


الانتخاب هو آلية تداول السلطة في ظل النظام الديمقراطي، وفقاً لكل تعريفات وتوصيفات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والبروتوكولات الملحقة به والمعاهدات والصكوك الدولية ذات الشأن، والسلطة هي مطمع ومطمح لأصحاب النفوذ والقوة والمال، وقد تستخدم هذه الآلية في تغيير وتشويه إرادة الناخبين بطرق وأساليب شتى، منها تزوير الانتخابات الذي بدوره يتخذ صورًا مختلفة (كتكرار التصويت، التصويت باسماء اشخاص متوفين، التصويت بالإنابة، التزوير في ورقة الاقتراع البريدية بالنسبة للانتخابات (absnity voting) دس أوراق الاقتراع (الحشو)، إتلاف وإبطال أوراق الاقتراع الصحيحة، تعمد التلاعب في تسجيل الأصوات و غير ذلك.

 التلاعب في لوائح الناخبين (سجل الناخبين) وكذلك كل الإجراءات والترتيبات غير المتفقة مع معايير العدالة وتحقيق إرادة الناخب كتقسيم الدوائر الانتخابيَّة بصورة غير متماثلة، والتلاعب بالديموغرافيا، وشراء أصوات الناخبين، وسلب فئة من الناخبين حقهم في التصويت والانتخاب، إضافة إلى التهديد والتخويف ونشر المعلومات الخاطئة والمضللة واستخدام المال غير المشروع، لدعم الحملات الانتخابيَّة واستخدام الممتلكات العامة لمصلحة الحزب أو المرشح، وهذه هي أهم صور المخالفات والخروق الانتخابيَّة (الجرائم)، وكل هذه الخروق موصوفة ومعرفة في القوانين العقابية النافذة، التي تتضمن عقوبات محددة لكل نوع من أنواع هذه الجرائم، وتختص محاكم الجزاء بالنظر فيها، ولكن ما يهمنا في مقالنا هذا هو تاثيراتها على صحة الانتخابات، وعلى فرص المرشحين والأحزاب في الفوز بها اي نتائج الانتخابات. بالاضافة إلى مدى اتفاق التشريعات الانتخابيَّة مع أحكام مواد الدستور ذات الشأن و هو ما تضطلع به الجهات المختصة بالنظر في تلك النزاعات، وما تختص به من صلاحيات وسنصطلح على تلك النزاعات بـ (الشكاوى والطعون الانتخابيَّة). 

حيث تختلف الجهات المختصة بالنظر في تلك النزاعات باختلاف النماذج الديمقراطية، فقد توكل هذه المهمة في بعض النماذج إلى الهيئة التشريعية كما هو الحال في النرويج، اذ تبت لجنة برلمانيَّة خاصة في الطعون المتعلقة بالانتخابات النيابية وتصدر قرارات نهائية بشأنها علماً ان تلك اللجنة تنبثق عن البرلمان المنتخب وليس عن البرلمان المنتهية ولايته. وقد أيّد القضاء النرويجي اناطة الصلاحية بالبرلمان، بالنظر في الطعون الانتخابيَّة بالقرار الشهير، الذي صدر عن المحكمة العليا النرويجية عام 1962. و قد تم الاستفسار من لجنة فينيسيا للانتخابات، وهي لجنة أوروبية مختصة بإعطاء المشورة في الشؤون الديمقراطية، حول ذلك فأبدت رأيها في 22 كانون الأول 2010 بأن يكون للقضاء دور في النظر بالطعون الانتخابيَّة، وقد كان إسناد اختصاص النظر بالطعون الانتخابيَّة للهيئات التشريعية هو الاتجاه السائد نتيجة هيمنة المجالس التشريعيَّة، خاصة في فرنسا وبريطانيا، بسبب الفكرة السائدة في ذلك الوقت بأن (رجال القضاء بحكم وضعهم الاجتماعي وتكوينهم الثقافي، ومهنتهم يميلون إلى المحافظة و لذا تراهم يتعاطفون، إنْ صح التعبير، بصورة مسبقة مع نواب الأحزاب اليمينة و يتشددون مع نواب الأحزاب اليسارية) وقد وجهت انتقادات كثيرة للهيئات التشريعية بهذا الخصوص أهمها أن البرلمان يلعب دور الخصم والحكم في آن واحد، لكنه في بريطانيا وبشكل تدريجي انتقلت سلطة النظر في الطعون الانتخابيَّة إلى القضاء العادي.

وبعد تبني دستور 1958 في فرنسا اُسندت سلطة النظر في الطعون الانتخابيَّة إلى المجلس الدستوري، الذي تولى مهمة مراقبة دستوريَّة القوانين، و قد احتذى النموذج اللبناني حذو النموذج الفرنسي في إسناد مهمة النظر بالطعون الانتخابيَّة إلى المجلس الدستوري الذي تمَّ تأسيسه بالقانون رقم 25 الصادر في 14/7/1993 وقد أصدر بعض القرارات الخاصة بالانتخابات قضى بعضها بإبطال نيابة بعض النواب وإعادة إجراء الانتخابات في الدوائر التي ترشحوا فيها أو رد الطعون التي تقدم بها بعض المرشحين.

لكن الاسلوب الشائع والمتبع في معظم النماذج الديمقراطية هو إسناد مهمة البت في الطعون إلى القضاء، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية والهند وماليزيا وألمانيا والسويد والبوسنة والهرسك. وفي روسيا الاتحادية، حيث تجري الانتخابات في كل جمهورية من جمهورياتها طبقاً لقانون انتخابات تلك الجمهورية، ترفع الشكاوى الانتخابيَّة إلى المحكمة العليا لتلك الجمهورية، واذا ما أريد الطعن في قراراتها، فعندئذ يقدم الطعن إلى المحكمة الدستورية للاتحاد الروسي.

وتبت المحكمة العليا في ليتوانيا في الشكاوى والطعون الخاصة بانتخابات مجلس النواب، بينما يتولى القضاء الإداري هذه المهمة بالنسبة للانتخابات المحلية، وكلتا المحكمتين يجب ان تفصل في الطعون المعروضة امامها خلال 72 ساعة من تاريخ تقديم الشكوى أو الطعن، وفي شيلي هناك محكمة خاصة بالانتخابات تسمى بالمحكمة الانتخابيَّة، يتم اختيار قضاتها وعددهم خمسة من بين أعضاء المحكمة العليا بالقرعة كل سنتين، بينما تختص محكمة النقض في مصر بالفصل في صحة عضوية اعضاء مجلس الشعب، بينما تفصل في الاعتراضات الخاصة بالترشح لانتخابات مجلس الشعب لجان تشكل بقرار من اللجنة العليا للانتخابات بكل محافظة برئاسة قاضٍ بمحاكم الاستئناف، وعضوية قاضيين بدرجة رئيس بالمحاكم الابتدائية يختارهم مجلس القضاء الأعلى، وذلك خلال مده أقصاها سبعة أيام من تاريخ إقفال باب الترشيح، ويتولى الأمانة الفنية للجنة ممثل لوزارة الداخلية يختاره وزيرها، ويتولى القضاة في السودان البت في الطعون المقدمة من المرشحين والأحزاب السياسية. و في الجزائر تبت لجنة انتخابية ولائية تتكون من ثلاثة من القضاة، يعيّنهم وزير العدل تجتمع في المجلس القضائي أو المحكمة في مقر الولاية.

أما بالنسبة للانتخابات الفلسطينية فتشكل محكمة استئناف خاصة بقضايا الانتخابات من رئيس وأربعة من القضاة، يعيّنهم رئيس السلطة الفلسطينية (تختص المحكمة في النظر بالاستئنافات والطعون المقدمة لإلغاء أو تعديل القرارات الصادرة عن اللجنة المركزية أو التي ينص هذا القانون على جواز استئنافها أو الطعن فيها أمام المحاكم).

وفي الاردن على الرغم من أن قانون انتخابات مجلس النواب لعام 2001 قد نظم الطعون بسجلات الناخبين وأناط بحاكم البداءة الاختصاص بالنظر في هذه الطعون، إلا أن الطعون الخاصة بنتائج الانتخابات قد أعطيت صلاحية البت فيها للجنة الاقتراع والفرز التي تصدر قرارات قطعية بالطعون.

وتحرص النماذج الديمقراطية الحديثة خاصة في المجتمعات المنقسمة إلى إسناد هذه المهمة للقضاء نتيجة حداثة التجربة فيها وعدم ترسخ النظام السياسي كما هو الحال في البوسنة والهرسك. حيث تتولى محكمة الدولة (التمييز) البت في الطعون الانتخابيَّة وفقاً للالية التي رسمها قانون الانتخابات في البوسنة والهرسك. ويتمُّ تقديم الشكاوى إلى اللجان الانتخابيَّة في البلديات. وفي حالة عدم القناعة بقرار اللجنة الانتخابيَّة المحلية يتم استئناف قرارها امام اللجنة الانتخابيَّة المركزية وقرار اللجنة الانتخابيَّة المركزية قابل للطعن أمام محكمة الدولة، التي تصدر قراراً باتاً في شأن هذه الطعون في مدة اقصاها 3 أيام. 

وفي الهند تقدم الشكاوى التي تتعلق بالانتخابات الرئاسية إلى المحكمة العليا، التي تصدر قرارات باتة ولا يحق لأية محكمة مدنية أخرى أن تنظر في الشكاوى الانتخابيَّة أو تتفحص أي اجراء يتخذ في أي قرار يصدره موظف الاعلان عن النتائج وفقاً لاحكام القانون الصادر عام 1952، وتقوم هيئة من المحكمة العليا لا يقل عدد افرادها عن 5 من القضاة بدراسة الطعون واصدار قرارات بشأنها، لكن المبالغة في دور القضاء في العملية الانتخابيَّة في مصر وفقاً لقرار القضاء الدستوري بأن يكون قاضيا في كل مركز اقتراع أدى إلى اطالة امد الانتخابات المصرية التي جرت في 2011م إلى حوالي الشهرين بسبب عدد القضاة، الذي لا يكفي لتغطية جميع مراكز الاقتراع، ما أدى إلى إثقال كاهل الناخبين والجهة المنظمة للانتخابات بإجرائها العملية الانتخابيَّة، ولعدة مراحل لم تفصل بينها مدة كافية، بالاضافة إلى أن اللجنة العليا للانتخابات هي لجنة قضائيَّة اي كل اعضائها من القضاة، ومن يبت في الطعون هي جهات قضائية ايضاً كما أسلفنا (محكمة النقض، القضاء

 الإداري).