إيزابيل الليندي: نعيش في ثقافة العنف.. مع ولعٍ بالبنادق (2-2)

ثقافة 2023/10/05
...

 حاورتها: ستيفانيا تالادريد

 ترجمة: نجاح الجبيلي


قبل أيام من الذكرى الخمسين للانقلاب في تشيلي، حاورتُ الليندي عن إرث المنفى في رواية «الريح تعرف اسمي»، وحالة الديمقراطية الأميركية:


*هل تفكرين وتكتبين بالإسبانية؟

أكتب دائما باللغة الاسبانية. لكن يمكنني أيضاً أن أكتب باللغة الإنجليزية، إذا كان كتاباً غير روائي. أو، إذا كانت قصة قصيرة، فيمكنني الاحتفاظ بالنصين على الكمبيوتر والانتقال من أحدهما إلى الآخر، جملة بعد جملة. لكن إذا كانت رواية، فلا استطيع ذلك. الرواية بالنسبة لي هي مثل تطريز النسيج، يستغرق وقتا وخيوطاً ذات ألوان متعددة.  يمكنك التراجع عن ذلك ثم المحاولة مرة أخرى. إذن فأنتِ لا تعرفي الطراز حتى يتم الانتهاء منه. وتحدث هذه العملية في الرحم، لا في الدماغ. لذلك، لا بد لي من القيام بذلك باللغة

الإسبانية!


*هل كتابة الروايات أمر طبيعي بالنسبة لك أكثر من تأليف الكتب غير الروائية؟

نعم، إلا إذا كانت رسالة. أنا أقوم بتوصيل شيء لشخص ما. هذا سهل. لكن إذا كنت أكتبُ لكي يُنشَر، فإن الكتاب غير الروائي يجب أن يكون دقيقاً جداً. لا يمكنكِ اختلاق الأمور. يمكن أن يكون لديكِ رأيٌ حول شيء ما، ولكن الحقائق هي الحقائق. لا توجد حقائق بديلة. في الخيال، أنتِ حرة في أن تفعلي ما تريدين. وأنتِ حرة في الكذب والاختراع وإعادة خلق العالم. أحب ذلك.


*تستند رواية «الريح تعرف اسمي» بشكل لا شكّ فيه على تجارب الحياة الواقعية لآلاف العائلات في الحدود الجنوبية، وتجارب الأطفال أيضاً، الذين ما زال المئات منهم منفصلين عن والديهم اليوم. ما الذي جذبك إلى هذا الموضوع؟

أملك مؤسسة تعمل مع النساء والأطفال. نحن نركّز على مناطق قليلة، أحداها تضم اللاجئين  في جميع أنحاء العالم، ولكن نركز بالطبع على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك. نحن نساعد المنظمات والبرامج المالية التي تعمل بالفعل في هذا المجال. ومن خلال المنظمات التي كنا نساعدها، علمتُ بحالة فتاة صغيرة عمياء، انفصلت عن والدتها. وتلك القصة ترمز، أو تلخص، مأساة جميع الأطفال الذين انفصلوا عن عائلاتهم. لم يحدث الأمر مع الأطفال اليوم فحسب، بل مع الأطفال اليهود الصغار خلال الحرب العالمية الثانية، الذين هربوا من النازيين؛ وأبناء العبيد الذين بيعوا وانفصلوا عن أمهاتهم؛ وأطفال السكان الأصليين الذين اُنتزعوا من عائلاتهم ووضعوا في دور الأيتام المسيحية الرهيبة، حيث مات الكثير منهم من الجوع. ليس هنا فقط، ولكن أيضاً في كندا وأستراليا ونيوزيلندا، وفي العديد من الأماكن. إنها مأساة مستمرة عاشتها البشرية.


*كان بمقدوركِ اختيار أي من تلك التجارب أو الفترات الزمنية، ومع ذلك، اخترتِ فيينا في أواخر الثلاثينيات، مع التركيز على صامويل أدلر، الصبي الذي نشأ في عائلة يهودية وانفصل عن والديه. ما الذي كنتِ تأملين في استنباطه لدى القارئ من خلال المقارنة بين تجربته وتجربة أنيتا الفتاة السلفادورية؟

الحقيقة أن التاريخ يعيد نفسه. لقد وقعتْ أحداث من قبل وستستمر في الحدوث إذا لم نوقفها. لنفترض أن القارئ الذي لا يتعاطف مع الهجرة، ولا يعرف ما يحدث، ولا يريد أن يعرف الكثير، يعثر على رواية تحكي قصة عن فتاة صغيرة. ربما لا يستطيع هذا القارئ التواصل مع تلك الفتاة الصغيرة لأنها ملونة. لو كانت من الدول الاسكندنافية لكان الأمر أسهل. يمكننا أن نتواصل مع أولئك الذين يشبهوننا. من الصعب جداً الارتباط بالأرقام، حين تسمعين أن هناك أكثر من مئة مليون نازح قسرياً في العالم، وأن الملايين منهم من النساء والأطفال. هذا لا يعني شيئًا حتى ترين وجهاً، وتسمعين اسماً، وتعرفين قصة، ومن ثم يمكنكِ أن تكوني ذلك الشخص، ويمكن أن يكون هذا الطفل لك. وبعد ذلك يتغير كل شيء.


*إذا كانت كتابة رواية، كما قلتِ في الماضي، هي تجميع مجموعة من الأكاذيب للوصول إلى الحقيقة، فما هي الحقيقة التي كنتِ تبحثين عنها هنا؟

كلنا نعرف عن الضحايا. نعلم جميعاً عن السياسات الرهيبة التي تخلق هذه الكوارث، لكننا لا نسمع أبداً عن الأشخاص الذين يقدمون العون لنا. هناك الآلاف من المحامين في الولايات المتحدة الذين يعملون مجاناً للدفاع عن الأطفال في المحكمة. إذا جرى تمثيل الطفل في المحكمة، فمن المرجح أن يحصل على اللجوء. إذا لم يحصل ذلك، فسيتم ترحيله. الآن، العديد من هؤلاء المحامين هم من النساء، لأنه لا يوجد مال ولا مجد فيه، لا شيء، باستثناء الإكراه على مساعدة شخص ما. ولذا، فإن هذا الشعور بذلك الشيء الرائع الذي يجعلنا بشراً، وهو القدرة على وضع نفسك في مكان شخص آخر والتصرف، هو الذي يجذبني.


*النزوح، والحياة في المنفى، والخسارة كلها مواضيع متكررة في عملك، وكذلك التهديد بالدكتاتورية. لم ترد إشارة في الرواية قط إلى الشخص الذي يقف وراء سياسة انفصال الأُسر، تماماً كما لم يرد ذكر بينوشيه وتشيلي صراحة  في رواية «بيت الأرواح». هل يمنحك هذا رخصة أدبية أكبر؟

لا يهم من أنشأ هذه السياسة. المهم هو ما حدث. ولنفترض أنني كتبت أن هذه كانت سياسة ترامب، ثم قصرتُ الدراما بأكملها على ترامب. وسواء كان ترامب هناك أم لا، فإنّ الدراما والمأساة مستمرة. لم يحلها بايدن، ولن تحلها الحكومة المقبلة أيضاً.


*لا شك أن الهجرة ليست المأساة الوحيدة في عصرنا. لقد تعرضت حرية التعبير للاعتداء في السنوات الأخيرة. تقوم منظمة PEN America بتتبع جميع الكتب المحظورة في جميع أنحاء البلاد. وتضم القائمة مئات العناوين، التي تغطي كل شيء بدءًا من إرث العنصرية وحتى حمل المراهقات، ومن بين تلك العناوين “بيت الأرواح”.


أنا لا أعرف السبب حقاً. هل هو بسبب الجنس؟ لا يمكن أن يكون الأمر عنصريًا، لأنه يحدث في أمريكا اللاتينية، ولا علاقة له بالعرق في الولايات المتحدة. هل لها علاقة بالعنف؟ أعني أننا نعيش في ثقافة العنف، مع ولع بالعنف والبنادق. إذن، ما الذي يزعج الناس في محتوى رواية “بيت الأرواح”؟


*ومن الجدير بالذكر أن الكتاب تم حظره أيضاً في تشيلي عندما صدر. لقد شقَّ طريقه إلى البلاد من خلال نسخته الإسبانية، أليس كذلك؟

نعم، جرى نشره في إسبانيا بواسطة دار نشر جانيس وبلازا Plaza & Janés. وكان الناس يقومون بتهريب الكتاب بدون الغلاف إلى تشيلي، حتى تم إلغاء الرقابة على الكتب والمسرحيات، لأن قلة قليلة من الناس يستطيعون تحمل تكاليفها بأي حال من الأحوال. كان بائعو الكتب يضعونها تحت المنضدة، ويطلبها الناس سراً. [تضحك.]. إنه أمر رائع، وممتع جداً. لا فائدة من حظر كتاب. إنه يظهر على السطح، وكلما منعته أكثر، زاد فضول الشباب لقراءته.


*ماذا يدلّ حظر الكتاب في الولايات المتحدة في ظل الديمقراطية في البلاد؟

اعتقد أن الديمقراطية تزعج الكثير من الناس حقاً. إنهم يرغبون في أن تكون لديهم حكومة استبدادية؛ إنهم يحاولون إعداد عقولهم وإعداد البلاد لشيء من هذا القبيل. اعتقد أنّ الانقلاب في الولايات المتحدة أمر ممكن تماماً. ولا اعتقد أنّها ستكون لها خصائص الانقلابات في أمريكا اللاتينية، التي أصبح فيها العسكريون مرتزقة للأغنياء. إنه وضع مختلف تماماً، لكن من الممكن أن يحدث شيء ما هنا، وهو الاستيلاء على الحكومة وفشل المؤسسات القانونية التي تدعم هذا البلد. نأمل ألا يفعلوا ذلك، لكن هذا يمكن أن يحدث.

*من الملفت للنظر أن نسمعك تطرحين هذه الحجة الآن، لأنك في كتابك “بلدي المخترع” تتحدثين عن حقيقة أنكِ في تشيلي لم تتوقعي حدوث الانقلاب. فقد فاجأتكِ وحشيته. لكن الآن، بعد مرور خمسين عاماً، كمواطنة في هذا البلد، أنتِ تدركين التهديد؟.

تذكري أنه في هذا البلد، يمتلك الكثير من السكان أسلحة. لذلك، يمكن أن يؤدي ذلك حقًا إلى حرب أهلية. ومن ثم فإن هناك خطراً: فالديمقراطية مثل الصحة، لا تقدرها إلا بعد أن تفقدها.


*لقد قلتِ أنكِ كنتِ نسوية قبل أن يصبح هذا المفهوم معروفًا في عائلتك. ولكنك أعربتِ أيضاً عن شكوكك حول ما إذا كان القرن الحادي والعشرون سيكون قرن المرأة. ما السبب؟ 

لأنني اعتقد أنه ما زال أمامنا طريق طويل لنقطعه. لقد كانت السلطة الأبوية هي الطريقة التي عشنا بها كحضارة منذ آلاف السنين. ومن أجل تغيير ذلك، واستبداله بالمساواة بين الجنسين وإنشاء عالم تكون فيه القيم الأنثوية لا تقل أهمية عن القيم الذكورية، فسوف يستغرق الأمر وقتا طويلا. لقد رأيتُ الكثير من التقدم خلال الثمانين عاماً من عمري. ولأن مؤسستي تعمل مع النساء والأطفال، فإنني أرى مقدار ما يتعين علينا القيام به. أنتِ وأنا نتحدث من وجهة نظر مميزة. نحن نساء متعلمات، نشعر بالحرية، لدينا رؤية مختلفة تماماً للحياة عن رؤية فتاة صغيرة في أفغانستان، تزوجت في السادسة من عمرها من رجل يبلغ من العمر أربعين عاماً لأنهم لا يستطيعون إطعامها في عائلتها. وهذا ما يحدث اليوم في العالم الذي نعيش فيه. وبينما تتدرب بعض النساء ليصبحن رائدات فضاء، لا تستطيع نساء أخريات الخروج من منازلهن.


*وفي دولة مثل الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، والتي كانت بمثابة النجمة الهادية للعديد من البلدان الأخرى في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية وأماكن أخرى.

لم تعد كذلك. نصف السكان يمارس دور الخاضع. وهذا الدور ثابت لأن المرأة مرتبطة بالأمومة. لماذا تصوّيت أي امرأة في هذا البلد السياسي لا يمنحها الحق في اختيار عدد الأطفال الذين تريد إنجابهم؟ بعد انقطاع الطمث، أفهم ذلك، لكن لا أفهم المرأة الشابة التي تصوت ضد مصالحها الخاصة. 


عن مجلة نيويوركر 11 أيلول2023 

ستيفانيا تالادريد كاتبة مساهمة في مجلة نيويوركر. تم اختيارها كأحد المرشحين النهائيين لجائزة بوليتزر في عام 2023 لتقريرها عن إلغاء قانون “رو ضد وايد” المتعلق بالإجهاض.