د. علاء كريم
تمثّل المغايرة معنى لشكل الأساليب وما تحدده من طرق للتفكير وفق المناهج الحديثة، وما تتضمنه من أدوات يمكن بوساطتها رسم النسق الزمكاني للحدث المسرحي. وتعتمد المغايرة في هذا الاتجاه على الفعل الموضوعي وما يتقبله من رؤى تسمح لنا بأن نُعيد فحص الرؤية النصية والإخراجية والأدائية المرتبطة بالمغايرة الموضوعية داخل العرض المسرحي، بعيداً عن الاستهلاك الفكري والجسدي، والتأكيد على الوفرة وغزارة إنتاج الصور الجمالية داخل بنية العرض المسرحي.
تنتج المغايرة صور الخلق الإبداعي المرتبط بجماليات العرض وعناصر تكوينه، وإمكانية توظيف قدرات الكاتب وتركيبها عبر وعي المخرج، وما يمتلكه من صيغ تعبيرية تجسد مفهوم الفكرة، وخلق شفراتها داخل فضاء العرض، وهنا تؤكد المغايرة للمتلقي بأنّها وظّفت وفق نظام العرض المسرحي وجغرافيته، التي يستدل من خلالها المشاهد وعبر قراءة وتفكيك الشخصيات والأحداث، فضلاً عن ذلك، يمكن للمتلقي ومن خلال المغايرة الإجابة على مجموع الأسئلة المرتبطة بنوعها وبتجاربها المتعددة والمختلفة، منها: "الشبه والاختلاف، الحضور والغياب"، وكل الافعال التي تجسد وترسم ملامح الصراعات والتناقضات في حفريات البنى التكوينية، ذلك من أجل إثارة ومشاركة الرؤى المتداخلة في موضوعتها والتي تعكس واقعًا متشظيا، واقع يبحث عن معالجات جديدة غير مستهلكة، وحلول يتقبلها الجمهور ويشارك فيها عبر تأويلاته وقراءاته التي يكون فيها هو الحكم.
إن التحولات الدرامية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أدت إلى تغير بنية العرض المسرحي العراقي، مما أفرز ذلك عروضًا حاولت التمرد على البنية الدرامية التقليدية، وهدم منظومتها الملامسة لحبكة النص وشخصية البطل ونوع الصراع، الذي تدور حوله موضوعة العرض. لو تناولنا على سبيل المثال، مسرحية "الطوفان" للكاتب عادل كاظم والتي أعدها عن "ملحمة كلكامش"، وأخرجها إبراهيم جلال لطلبة فرع التمثيل في معهد الفنون الجميلة في عام 1966، حيث ابتعد الكاتب عن التقليد في الكتابة النمطية المملة وفي تجسيد الشخوص، واتقن فن صياغة الحبكة واثارة الصراع ما بين شخوص نصوصه، وتجسد ذلك في "الطوفان" عند "كلكامش"، وهو يفصح عما يعانيه من الشكوك عن علاقة والدته "فاطمة الربيعي" بالكاهن الأعظم "صلاح القصب"، وكذلك معاناته في اللاجدوى من البحث عن الخلود ما بينه وبين صديقه الحميم "انكيدو"، والذي جاراه بقوته وجبروته في مشهد رائع تجسدت جميع مقومات عناصر الصراع المتنامي، والذي شد المتلقي واثار اعجاب المتفرجين.
ومن المسرحيين في العراق والذين اشتغلوا على المغايرة الموضوعية "يوسف العاني" لما يستهدفه من تصوير للمجتمع العراقي بمشكلاته وتنوعه الاجتماعي، وكذلك عبر كشف الواقع المأساوي وتجسيده بوساطة أساليب وأدوات التعبير المختلفة. ومثال لذلك، مسرحية "المفتاح" عام 1968 ومسرحية "الخرابة" عام 1970، والتي اعتمد فيها المغايرة عبر تغيير الظروف بعيدا عن تغيير الذات، رغم أن تغيير الظروف لا يكون مجديًا إن لم يتغير الانسان، فالخرابة في المجتمع وليست في مكان آخر. وايضا مسرحية "الشريعة"، التي عرضت في عام 1971. يستخدم "العاني" في مسرحياته التحولات الرمزية والحكاية العراقية للكشف عن المشكلات الحياتية، وأيضا السياسية المرتبطة بالمسرح الوثائقي والملحمي، ويرى من خلالهما الأمكنة الدرامية.
وتعدُّ مسرحية "بغداد الأزل بين الجد والهزل" عام 1974 نقلة مهمة ومميزة بين سلسلة تجارب "قاسم محمد" معدّاً ومخرجاً، وكذلك في تاريخ المسرح العراقي، عبر المتغير الموضوعي. إذ اشتغل قاسم محمد على التجريب في التراث المكتوب وتوظيف مشهديَّة الشكل الطقسي والاحتفالي، الذي يتضمن جذوراً درامية، وفي كل تجربة من تجاربه، يخبرنا بأنه اكتشف نهجاً مسرحياً جديداً، لنشاهد بأن هناك استقلالية في كل تجربة من ناحية الشكل والمضمون عن التجارب، التي سبقتها أو ما سيأتي بعدها، هذه الاستقلالية ترتبط ببنية العرض المسرحي والمغايرة الموضوعية الجديدة، وما يترتب عليها من أفكار وتجارب سابقة.
أما في مسرح ما بعد عام 2003 اعتمدت المغايرة الموضوعية على رؤية الكاتب وايضا المخرج، وما تجسده تصوراتهم لمتغيرات العراق السياسية وتأثيرها على اساليب ونمط العروض، عديدة هي الأعمال المسرحيَّة، التي قدمت بعد هذه الحقبة الزمنية، وتناولت مجموعة قضايا منها السياسيَّة والاجتماعيَّة وأيضا التاريخيَّة والشعبيَّة ذات الطابع الكوميدي الساخر بصيغة نقدية. وهناك عروض تداخلت فيها التقنيَّة الرقميَّة الحديثة، التي اهتمت بالجسد والسينوغرافيا والإضاءة، فالثورة المعلوماتية جعلت العرض المسرحي المعاصر أمام مأزق صوري ومعلوماتي كبير، حتى أصبح الجمهور أمام مجموعة من العروض العالمية.
واظهرت المغايرة معالجات اخراجية وأساليب فنية في تشكلات وتركيب بنية العرض، مما ادى ذلك الى التحول في موضوعة العرض المسرحي، وفق ما تستدعي الاحداث والمواقف المتجهة نحو كتابة الأشكال الأدائية التي تعتمد على مشاكسة المتلقي، والتحرر من النص التقليدي ومغادرته نحو تجارب انسانية جديدة يمكن من خلالها توظيف كل الأفعال ومنها صور القبح جمالياً، والذهاب نحو فضاءات جديدة، وأشكال تتسع القيم الدرامية الحديثة، بعيداً عن التقليديَّة والتكرار في محاكاة الواقع والعمل على اختراقه برؤى منفتحة على أنساق وأحداث في الشارع العراقي لم تطرح، مثل: ما يحدث في الأمكنة العامة والأسواق وبجوانب اجتماعيَّة غير
مألوفة، ليتم كسر هذه الرتابة وما تنتجه من أفكارٍ تجريبيَّة تحاكي الحروب والواقع السياسي على حساب المتعة الجمالية، وما تنتجه من صور ومعانٍ تأويليَّة منظمة بعيدة عن المعنى الافتراضي
المشتت.
ثقافة الجمهور العراقي تميز العروض المهمة من غيرها، وذلك عبر التجارب الحياتية التي مر بها المجتمع، وايضا مشاركته العرض نتيجة لتجربته كفرد من مجتمع يحمل همومًا واشكاليات
عديدة. واليوم نشاهد تكرارا واستنساخ رؤى وأفكارا قدمت من قبل، وايضا هناك من يشتغل بخطٍ واحد لا يستطيع الخروج منه، مثلا: الحرب والدماء والخراب وطرح القضايا السياسية المستهلكة. وعليه، لا بد من البحث عن المتغير الموضوعي الجمالي، الذي يحاكي واقع الفرد العراقي المعاصر وبرؤى حديثة.