لؤي حمزة عبّاس
تتضافر خبرتا الرسم والكتابة، في عموم منجز الفنان هاشم تايه، وتفيد كل منهما من الأخرى، تثريها وتثرى بها، في نوع من المشاركة الايقونولوجية الفاعلة والنسج الجمالي المشترك، فيملك أفق العمل التشكيلي محتوى تعبيرياً واسعاً، مثلما تقترح نصوصه الكتابيَّة بالمقابل مساحة جمالية تغتني بمنظور الفنان وهو يعمل على إعادة إنتاج تجاربه الواقعية منها والمتخيلة، منشغلا بما بين (العين) و (الأثر) من دلالة بعيدة ومعنى يتحرّك بين ضفتي النظر، مركز التقاط صور العالم، وما يتخلف من أثر، شاهداً على كل فعل وقول.
إنَّ جملة (العين والأثر)(1)، في عنوان الكتاب، تشهد انتقالين، من مساحة القول الشعبي التي تدور فيها على اللسان العراقي، إلى دلالات الفعل الكتابي، ومن مساحة المحمول التراثي، كما في كتاب الإمام عبد الباقي البغلي (ت 1071 هجريَّة)، الموسوم (العين والأثر في عقائد أهل الأثر)، إلى مجالات التأليف السردي المعاصر، وهو ما يدعو هاشم تايه إلى التفكير بطبيعة (التأثير) الذي يضفيه العنوان على الكتاب، ويتركه في كلٍّ من الرسم والكتابة وهما يوسّعان حقلي إنتاجهما، ليحيا الفنان مواجهته مع نفسه ومع كتابته منذ الافتتاح الأول للكتاب وقد حمل عنوان (تطبيعاً مع القص)، فليس سوى الفنان من يتطلّع للكتابة بوصفها (تطبيعاً) قادراً على استيعاب خبرة الفن التشكيلي والإفادة من محتواها الدلالي الذي يعمل على التقاط شظايا الوقائع الحياتيَّة، ومعالجة وقعها الفادح، هذه الآثار التي ظهرت «مكتومةً أو متكتمةً في مدوّنات رسومي تحت طائلة ألوانٍ، وخطوطٍ، وأشكالٍ، ثم قُدِّر لها الارتماء في تكوينها اللغوي».
في كتابة هاشم كما في منجزه التشكيلي، ثمة صيغتان دلاليتان تتآخيان في تأسيس عوالمه التعبيريَّة، الكتابيَّة والتشكيليَّة، وتقاربان بين أفقي عمليهما اللغوي والأيقوني، ليواصل الفنان رحلته مع الرسم والكتابة، مثلما يواصل تأملاته بينهما وقد شغله طويلاً ما تحقّقه «الرؤية الحسيَّة بالعين في إطار حكائي»، يوظف فيها ما يُرى بالبصر إلى جوار ما يُدرك بالبصيرة، في سبيل الوقوف على المعاني التي تكمن دائماً في المناطق البعيدة، شبه المعتمة، من ظواهر الوجود، ولا تنفصل، في ذلك، خبرة الفنان عن خبرة الكاتب، بل تشهد الخبرتان تعاضداً يتوطّد مع كلِّ تجربة جديدة، في الرسم وفي الكتابة، ففي داخل كلِّ رسامٍ حكاءٌ، كما في داخل كلِّ حكاءٍ رسامٌ، وهو ما يجد تحقّقه في عمل هاشم تايه، الفنان الكاتب، وما يمنحه فرصةً مضافةً للتأمل الجمالي، يبدو من الطبيعي معه أن تغيب رؤية الواقع بوصفها مهمة نهائية وتتراجع أمام ما يحقّقه الفن، وذلك ما يصرّح به في محاولته التطبيعيَّة: «لا يوجد واقع! يوجد فن»، لتبدو مقاصد (العين والأثر) منصبةً في رصد تشكّلات العالم والعمل على تأويلها، ورصد وتأويل ما يُمارس حولنا من أشكال القسوة وما يقع من انتهاكات، «فما نراه حولنا، أو ما نعيش فيه مكسو بطبقة كثيفة من الانتهاكات، والخروقات، والألعاب، والحِيَل، والأقنعة»(2). إن لكلِّ من الفنان والكاتب طرائقه في التعامل مع حقائق الوجود، وهي الطرائق التي كوّنتها خبرة العمل الفني، حسب تصوّر بول كلي، إذ «يتعامل الفن من دون شك مع الحقائق النهائيَّة ويتوصل إليها فيما بعد. نحن نقلد في العمل الفني القوى التي خلقت وما زالت تخلق العالم»(3).
في فقرة الافتتاح الثانية (بورتريه)، يجسّد تايه صيغتي الرسم والكتابة، مستحضراً كلاً منهما من خلال نمطين من المبدعين، قاص ورسام، يلتقيان في لحظة يعمل الرسام فيها على انجاز بورتريه شخصي للقاص، مفجّراً سؤالاً يعتمل في ذهنه: «ما جعلك تقصّ؟ أعني ما دفعك إلى كتابة القصص؟»، وهو السؤال الذي يمتد ويتّسع لمنتجي الإبداع جميعاً، على اختلاف ضروب إبداعهم، «دسَّ القاص يده في جيب سترته، وأخرج مجموعة مفاتيح انتظمت في حلقة معدنيَّة، رفعها إلى أعلى وخضّها بقوّة، فاشتبكت مع بعضها، وأصدرت خرخشةً ضاجّةً، وقال:
«هؤلاء دفعوني إلى القصص»
الرسام، بدوره، يجيب عن سؤاله نفسه، يتوجّه إلى جرّة عتيقة، ويرسل يده إلى قاعها، ثم يسحبها مضمومة الكفّ، ويرفعها في الفضاء وقد بسط راحتها الفارغة، وقال:
«هذا جعلني أرسم، وهذا دفعني إلى الرسم»!
ومَنْ هذا؟ سأل القاص
«الفراغ، والسكون» أجاب الرسام.
ينتج نص البورتريه تمثيله السردي لموجبات الإبداع، بحثاً عن المفاتيح التي تحمل بدورها ترميزها الواسع الذي يبدو معه كلُّ فن بحثاً عمّا يفتح مغاليق الوجود ويضيء كوامن أسراره، لكن الرسام يقدم إجابته التي لن تكون غير الفراغ والسكون، على سعتهما وانفتاح معانيهما، حافزين لانشغاله الإبداعي. ما يثير في النص بعد السؤال عن موجبات الإبداع، تقنية الكتابة التي اتخذت من الثنائيَّة سبيلاً لأداء معناها وكشف دلالتها، ثنائية القاص والرسام التي تستدعي ثنائية الإجابة، المفاتيح مقابل الفراغ والسكون، التي يمكن عدُّها امتداداً لثنائية إنتاج الكتاب، ابتداءً من ثنائية العنوان، (العين) و(الأثر)، وثنائية الافتتاح، (تطبيعاً مع القص) و(بوتريه)، وصولاً للثنائية الأكبر التي تتوزع نصوص الكتاب وقد قُسّمت تحت عنواني: (من الدفتر الدوّار) و (من دفتر الإقامة)، بما يقابلهما ويدلُّ عليهما من الحركة والسكون، بوصفهما مجالي إنتاج الكتاب وتدوين نصوصه التي شهدت انتقالات بين مراقبة ما يقع واستعادة ما وقع من قبل، وقد عمل هاشم تايه بينهما على إعادة إنتاج تجاربه البعيدة منها والقريبة، الواقعية والمتخيلة، في العراق وفي بلاد السفر والغربة، من دون أن تتطابق نصوصه مع التجنيس القصصي للكتاب، أو تتفق مع (القصة) نوعاً لمجمل مقاطعه التي تبدو أكثر تطابقاً مع (السرد) بسعته وشموله، لتجد الثنائية التي توزعت على أساسها نصوص الكتاب، مسوغها الأهم وهي تلتقط شظايا سيرية وشذرات يومية، معبرةً عن رؤية الفنان والكاتب لمختلف تجاربه، في حالي الإقامة والترحال.
الهوامش:
1 - العين والأثر، هاشم تايه، قصص، منشورات غاف 2023
2 - م. ن: 8
3 - عن الجمال، إدغار موران، ترجمة محمد الذبحاوي، مراجعة علاء شطنان، دراسات فكرية، جامعة الكوفة 2019: 50