حازم رعد
لقد عرف رجال السلطة في الحضارات القديمة مثل حضارات وادي الرافدين ومصر القديمة واليونان والرومان استخدام «الادوات الناعمة» وهي أساليب لا مادية ولا تفضي الى خسارات مالية كبيرة وتعمل على جذب وجدان وعقل الجمهور برغبة منه، من قبل تسخير الكهنة والعرافين والمشعوذين «كما يحصل عادة في الحاضر» لغرض اشاعة وترسيخ مجموعة من المفاهيم والشعارات وغرسها في نفوس العامة مثل القومية والفرقة الناجية ونظرية العرق والخلاص.
وكذلك عهدوا الى بثِّ الشائعات وتخويف الناس من تدخل قوى غيبيَّة أو نزول البلاء عليهم فيما لو خالفوا أو تهاونوا في نصرة أولياء أمورهم «من في السلطة» فإنَّ نشر الزيف والاوهام بين الناس يسهم كثيرًا في تغييب الحقيقة ويمنع العقول من التفكير بأصالة وتجرد تامين، وهذا ما يجعل الناس في دائرة انعدام الادراك الحقيقي للأشياء واللجوء الى بدائل غير حقيقية وزائفة لتبرير الواقع، وهذا جوهر فعل الايديولوجيا «قلب الواقع وتبريره» لتتمكن من فرص السيطرة والتسرّب الى ذهنيّة العامة من الناس.
أو تمارس السلطة أسلوبًا آخر وهو انتهاك حرمات بعض الشخصيات المهمة كتسقيطهم اجتماعيًا والتشهير بهم أو يتم توظيف بعض الفنانين الساخرين أو التراجيديين للتنفيس عن احتقان الشعب، وافراغ شحنات غضبه من خلال العروض باستخدام مشاهد فيها ضربات إخراجيّة مؤثرة. وقد استعمل هذا الأسلوب قديما من خلال المنافسات بين المجالدين في ساحات المسرح الروماني «الكولوسيوم» حيث يتقاتل مصارعان حتى الموت والشعب يهتف للمنتصر ويدعو للموت ومزيد من القتل متناسيًا جراحه وبؤسه ومعاناته. وهكذا توجد اساليب وطرق اخرى للسيطرة والالهاء، ويستعمل في الحاضر عبر إحياء شعارات وقصص ومفاهيم التراث واعياد ومناسبات وطنية وقومية ودينية وغير ذلك. وجعل الناس يعيشون في التاريخ وكأنّه واقع نشط ومؤثر فيهم وهي اشبه ما تكون بالاصنام الجديدة لا من النوع الذي يعبد بل من النوع الذي يشغل ويلهي ويجعل عامة الناس يشيحون بأبصارهم عما هو مهم، ومن خلال تلك «الادوات الناعمة» تجري عملية ترويض الجمهور وجعله طيعًا، وعلى اثر ذلك أما خاضعًا مفضلًا الصمت ازاء كل ما يحصل له من انتهاكات وظلامات وامتهان كرامته أو ملبيًا لرغبات وميول جهات السلطة المهيمنة وتحقيق ما تأمله تلك الجهات واسنادها بالوقوف معها في السلم والحرب، أو لتعبيد الطريق امام زيادة نفوذ رجال السلطة من خلال رفع العثرات من امامهم متمثلة بتسقيط وانتهاك حرمات الفلاسفة والمفكرين والمصلحين الاجتماعيين، وهذا ما عهد قديمًا ويجري في الحاضر بذات الأدوات وغيرها والهدف من ذلك واحد هو الهيمنة والسطوة والحظوة بالامتلاك. إن الادوات الناعمة اساليب ورسائل ناجعة خاصة مع ذيوع ثقافة مناهضة الحروب وتحالفات الهيمنة الاستعمارية، وصعود حالة الحداثة والتنوير وسيطرة الاقتصاديات والتطور التكنولوجي والرقمي مما يساعد الى تقريب المسافات وتبسيط عمليات الاطاحة والهيمنة والحضور الفاعل عبر آليات وتقانات غير مادية، ولكنها ملموسة ومحسوسة من خلال قوة ضغطها وتأثيرها في الواقع. تستثمر السلطة تلك الآليات وتوظف هكذا اساليب «عرضنا جانبًا يسيرًا منها أعلاه» من أجل تعمية عيون عامة الجماهير عما يحصل، ويدور خلف ظهرانيها وبخاصة في اروقة السياسة والاشاحة بنظرهم باتجاه فعاليات أخرى ووقائع أخرى سواء ساخرة أو تعبر عن معاناة الناس أو تفرغ شحنات غضبهم على السلطة في مواضع أخرى.