الإضافة الثقافيَّة

ثقافة 2023/10/09
...

  ياسين طه حافظ

طبيعيّ جداً أننا نفيد من قراءاتنا، وأن هذه القراءات مصدر إغناء ثقافي وتطوير أفكار وتوسيع آفاق. ومن يستفد أكثر من قراءته تتضح أكثر جدوى القراءة في كتابته وعموم نتاجه، بل وفي حديثه وفهمه للناس والأحداث.لا يقتصر هذا على الأدب شعرا أو رواية ولكنه يتضح أيضا في الدراسات اللغوية والنقد الأدبي والفني. ومصادر ثقافتنا السنمية والموسيقية الحديثة تكاد تكون كلها من قراءاتنا.إذا كان هذا ما نمتدحه ونرضاه فأين امتياز هذا المثقف عن ذاك، أعني هذا القارئ المتابع؟، سواء من يقرؤون المصادر نفسها والكتابات والافكار ومن لا يميز هذا عن ذاك؟

المجد والمديح لذلك الذي يطور ويوسع ما أفاد من قراءاته ويجعل من قراءاته حوافز تجديد وتطوير. ثمة من تجده مُعِدًّا، أي يضع ما يقرأ – من بحوث ودراسات مرَّ بها – فصولًا منتظمة في مقال أو دراسة أو كتاب.

وأولاء كثر يملؤون الصحافة ودور النشر.

وآخرون مجدون، حفّزتهم قراءتهم لآفاق أخرى ولجوانب لم يأتِ عليها أحد فيُشيع موضوعات لم تعرفها الساحة وتراه وسّعَ من تطبيقاتها العملية واضاف لما قرأ أبعادًا. وهو هذا المثقف المجد المجتهد، الذي يعنينا الآن.

لا يقتصر هذا على الأدب والكتابة الادبيّة، الدراسات اللغويّة الحديثة، وما يصدر من جديد في النقد الادبي هي مما نقرأ ونجتهد ونضيف، وهذا واضح كل الوضوح في النقد الفني، لا سيما الكتابات المهمة التي صدرت عن السينما والرسم والعمارة وفلسفة الفن، ولنا أمثلة ممتازة أشيد بها مما كتبه الأستاذ شاكر حسن آل سعيد في الرسم والفن وما وراءهما من أفكار أضافها اجتهاده الشخصي وثقافته.

وهي مناسبة لأشيد بفطنة ناقد أفادنا وأفاد اسمه، فأقول: نعم تُرجِمَ كتاب باشلار جماليات المكان، لكن ناقدًا ذكيًا وحيدًا بادر للافادة من آفاقه. 

لقد حفّز هذا الموضوع الاستاذ النصير للمزيد من ابعاده والاضافة له وتوسيع تطبيقاته العملية واشاعهُ في الوسط حتى صار رسائل جامعية وعنوان ندوات او محاضرات ماذا نريد اكثر من هذا؟

لماذا انتبه النصير ولم يتنبه لأهمية الموضوع سواه؟

هو هذا الذكاء وهو هذا الانتباه والخصب الثقافي الذي يوسع الرؤية وينبّه لمزيد من التطبيقات، هو كتاب كأي كتاب مر على الجميع، لكن ثمة من امتلك للموضوعة آفاقاً وزاد مادته بمصادر اخرى حتى صار تخصصاً! وقبل ذلك امتلك استعداداً لمثل هذه الآفاق. هي حيوية ثقافية نباركها. 

وحصل مثل هذا او قريب منه حين  ترجمت “مدن لامرئية” لايتالو كالفينو. 

مر الكتاب على كثيرين لكن بعض الكتاب وجد فيه مدى لافكاره وأسلوبا يمكن ان يمنحه منحى ومذاقًا مختلفًا وجديدًا، وهو هذا المنشود من قراءاتنا ومن اطلاعنا على الجديد، لا النقل ولا ما يشبه السرقة ولا استنساخه بلغتنا، ولكن بأن نجد نحن لافكارنا مدى مما يزيدنا عافية وطاقة اكتشاف.

ليس هذا جديدًا، فقد عرفته الثقافة الأدبية برموزها وبمن افاد ممن سبقه. ثمة مفردة أراها معبرة جدًا عن هذي الحال وهي “التحفيز”.

الجملة، السطر، المشهد، الكتاب، يمتلكك، ويمنحك بذرة نار، تضيء لك موضوعًا جديدًا أو مديات جديدة وسعةً لموضوع تعرفه.

شخصيًا لمست مثل هذا في عديد قراءات، انتبهت لاعمال بذرتها جاءت من سطر في جحيم دانتي، أخرى من مقطع لشكسبير، أو من جوتة، أو من شاعر قديم، ربما قليل من القراء يعرفونه. 

ذلك حفز آخر بعد زمن، قد يكون يومًا وقد يكون دهرًا، لما هو أوسع أو لما هو أكثر 

أهمية.

للأسف، بعض كتابنا يرون في هذا ما لا يرضي، ولكنها الثقافة والتراث الإنساني قائمان على هذا التراكم وهذا التطوير.

حين كتبت مطولتي “تظهر مرة وتختفي” انتبهت من بعد أن هذه العبارة، العنوان، وردت في كتابة لجوته الالماني وهي مثل شعبي، وأنها قبعت في ذاكرتي لامتياز فيها ولم انتبه لحضورها الجديد الا عنوانًا لمطولتي الجديدة علمًا أن عنوان القصيدة الكامل هو: 

تظهر مرة وتختفي

      قصيدة عبر حياة ومقامات محمد القبانجي، 

والقصيدة عن ضياع ثورة 14 تموز. كيف جاءت العبارة، كيف صارت ضمن املاكي؟.

هي الثقافة كذلك وهو العمل الثقافي الذي مصادره بسعة عمرك وعدد مصادرها بعدد سِنِي عمرك.. والبشر في الأرض كل يمنح سواه شيئًا ويأخذ من غيره أشياء.

والشمس تجري لمستقر لها

والارض تبقى تدور..