مرويّاتٌ تاريخيَّةٌ وخياليَّةٌ عن حروب التجارة الدوليَّة

ثقافة 2023/10/10
...

  باقر صاحب

تبدأ الرواية بمشهد تراجيدي ومضحك في الآن ذاته، بحوار بين الأدميرال الانكليزي عزيز لانكستر ذي الأصول العربية -الهندية، وخادمه براين ليس، يسأل الأول فيه الثاني عن جريمة قتل السيدة بريطانيا، فيجيبه بأنه أنت الأدميرال قتلتها، بعدما خرجنا من الحانة.  هنا قتل مجازيٌّ مندفع من أعماق اللاشعور، بإطلاق نار على لوحةٍ بدائيةٍ تقلد مقطعاً من لوحة القربان للرسام الإيطالي سبريدون روما» تظهر فيه الهند كامرأةٍ جاثيةٍ على ركبتيها، تقدم تاجها المرصع بالجواهر إلى السيدة بريطانيا، الجالسة على صخرة وخلفها البحر»: ص7، هو مشهد يفتح باب التساؤلات، هل هو احتجاجٌ لا شعوري لأدميرال انكليزي ذي أصول عربية-هندية، على ما فعلته بريطانيا في الهند، الغنية بالثروات الطبيعية، التي كانت دافعاً قوياً لإخضاعها إلى التاج البريطاني، أم هو التبرير المفوه بأن الأدميرال أراد تجربة مسدس كولت سرقه من القنصل الهولندي هندريك هويت، ما يعطي انطباعاً عن استخفاف الانكليز بالهولنديين.
 حيث يجتذبنا الراوي العليم، بسردٍ تاريخي يتمازج فيه الواقع والخيال، فضلاً عن المعرفة الموسوعيَّة، التي يمتلكها الروائي نزار عبد الستار، إلى مرويات التنافس بين الدول الاستعمارية مثل هولندا وبريطانيا، في السيطرة على مناطق النفوذ في العالم، ومنها الهند، والبصرة كميناءٍ مهم، وهناك إشارةٌ إلى تاريخ استيلاء الهولنديين على سوق القهوة في البصرة» عندما أنهى البرلمان الانكليزي التعاملات التجارية لشركة الهند الشرقية البريطانية، وجعل كلكتا موقعاً إقليمياً لإدارة مصالح التاج البريطاني» الرواية: ص11. بعد مضي خمس سنوات على مجيء زيز لانكستر منفياً إلى البصرة عقاباً على قرصنته لسفينةٍ أسبانيةٍ وسرقة حمولتها، وكان قد حذف الحرف الأول من اسمه عزيز ليصبح زيز، زيادةً في الولاء للتاج البريطاني. هذه السرديات التاريخية، يبغي الراوي العليم إيصالها إلى القراء، لكي يكون عندهم تصور، عما هو الوضع في سوق القهوة، عندما تمَّ نفي لانكستر العربي سابقاً إلى البصرة، ومن هنا يقود لانكستر، من مقيمية شركة الهند الشرقية في البصرة حرب الشاي ضد قهوة الهولنديين.
الأوصاف التي أطلقت على لانكستر من قبل الراوي العليم هي أوصاف شخصيةٍ عدوانيّة، مثلاً، فكانت تصرفاته الهمجيّة ضد عساكر الضبطيّة العثمانيّة مبعث إرسال شكاوى عديدة من رئاستهم في البصرة إلى القنصلية البريطانيّة، لم يرد القنصل البريطاني عليها سوى مرّةٍ واحدة، موبّخاً الضبطيّة بأنَّ عساكرهم يخافون من «مجرمٍ معتوه» بما معناه بأنّه حتى القنصلية البريطانية في البصرة تستحقره.. كان الانكليز هناك يسمونه عزيز العربي. وفشلت كل محاولاته في التقرّب منهم. نخلص من كلّ ذلك أنّه شخصٌ منبوذٌ من الجميع، وهنا نعترف بأن الروائي نزار عبد الستار قدّم شخصيةً غرائبيَّة، وأفلح في رسم ملامحها الكريهة في ذهن القارئ، إلى الدرجة التي  سيصبح فيها عزيز لانكستر شخصيةً روائيةً لا تُنسى، هذا الذي يعتبره مديرو شركة الهند الشرقية البريطانية في مقرّ عملهم في لندن «شخصاً ملائماً للنوايا الدفينة، ويقدّرون مواهبه الاستبدادية، ويرون في ولائه تأييداً سماويّاً لرفاهية بريطانيا»: ص22
هنا نشعر بأن الروائي نزار عبد الستار جعل بطل روايته شخصيةً متوحدة، ولذلك هي فظّة، تربّت في ملجأ لسبع سنوات، حيث تبنّاه مدير حسابات شركة الهند الشرقية البريطانية لانكستر، فأخرجه من الملجأ، وأسكنه في قصره، وأصبح اسمه عزيز لانكستر، لكن عشيقته الهولندية صاحبة الحانة ماريكا وحدها من أحسّت بأنَّ هذا المجرم الوحشي» طفل يختبئ بين أرجل مجموعة من الرجال. كان ضياعه يؤجج أمومتها الفطرية» ص30.  
أصبح عزيز لانكستر يُحسب له ألف حساب في عالم التجارة والمال والقوّة العسكرية، فضلاً عن تعطّشه للقتل، وإبادة الهنود الذي يرى بأنهم لا يستحقون الحياة، وهكذا تعملق زيز لانكستر. فكانت الرواية هي تاريخ التنافس التجاري الشرس بين الدول الاستعمارية، كما هي سيرة حياة أدميرالٍ متوحشٍ ليس له مثيل. ومنذ ذلك الوقت كان الصين بعبعاً للأوروبيين، حيث لُقّن لانكستر عزيز بأن شركة الهند الشرقية البريطانية أسُّست لتدمر الصين، وليس الاستيلاء على ثروات الهند، هي أفكار الاستعماريين في ابتلاع الدول الصغيرة، مع خلق مخاوف مستقبلية من الدول التي قد تكون منافساً حقيقياً لهم في المستقبل.
عمد الروائي نزار عبد الستار إلى استخدام تقنية التحولات المكانية والانتقالات الزمنيّة، كي يشوّق القارئ في متابعة روايته ذات الطابع التاريخي، والمطعّمة بتفاعلات الخيالي والواقعي، حيث سردياتها الممتعة عن كواليس التجارة الدولية في الدول الاستعمارية في القرن التاسع عشر، فيسرد انتقالاً مكانياً وزمنياً مهماً في سيرة حياة عزيز لانكستر، حينما يصل إلى لندن بعد خمسة أشهر من التاريخ البطولي في الهند جالباً معه ثروة كبيرة، واستقبل استقبالاً كبيراً من قبل عشرات الموظفين في شركة الهند الشرقية البريطانية، وقامت إحدى المجلات البريطانية بنشر سيرته حصرياً على صفحاتها، ورغم ذلك يذكر الراوي العليم أن نظرة لندن كانت واقعيةً جداً، حينما اعتبرته - رغم البطولات التي أحرزها- شخصيةً متعطشةً للدماء.
إنها روايةٌ ترفع شخصياتها المؤثرة شعاراتٍ تحوّلت إلى واقعٍ حقيقي عندهم، وبذلك غزا جنرالات الحروب وإمبراطورات المال أصقاعاً شاسعة من الكرة الارضية، يقول له رئيس بنك انكلترا: “أخلاقك هي مصالحك،  وشرفك هو الالتزام بالصفقات، وخيرك تجارتك الناجحة. الكتب المقدسة كتبت للفقراء فلا تلتفت اليها”: ص74.
وإذا كانت هذه هي الشعارات التي يجب أن يقتدي بها لانكستر من كبار المسؤولين في لندن، فإن الحاكم الانكليزي للهند، يبرّر كلَّ أفعال شركة الهند الشرقية البريطانية بأنها من أجل المال: “المال هو الحاكم الفعلي للوجود”: ص75.
وعندما اسْتُبدل الحاكم لانكليزي امهيرست بآخر يدعى بنتنك، يريد محاكمة لانكستر بقتل أدميرال فرنسي، حاججه لانكستر بأنه يمثل الجانب القذر الذي تحتاجه الشركة أحياناً، بما معناه؛ لا بدَّ من وجود رجال قذرين لحماية مصالح التاج البريطاني، وهذا يعني أنَّ الدول الاستعمارية مهما تحجّجت بدساتيرها العادلة، فإنها لا بدَّ أن تسلك أساليب الحرب القذرة، وهذا ما أفلح الروائي نزار عبد الستار في إيصاله للقارئ.
يرصد القارئ الدقيق التنقل المحكم بين الماضي والحاضر، ماضي لانكستر وحاضره، وبهما يدمج الخاص بالعام، سيرة لانكستر بإجراءات التاج البريطاني ماضياً وحاضراً في حماية مصالحه. ومن ذلك انه حينما يصدر البرلمان قراراً بإنهاء العمليات التجارية الإنكليزية، في عموم الهند، لن تستطيع شركة الهند الشرقية البريطانية بيع أيّ بضاعة، ويُسرّح موظفوها، فيُطلق العنان لفرقة (دم القمر) وهي مُكوّنةٌ من نساءٍ هندياتٍ مُدرّبات تدريباً عنيفاً لاغتيال أيٍّ كان ممّن ينافس التاج البريطاني في زراعة الافيون في (مالوا) الهندية حتى لو كان الملك نفسه. إبتدأت الرواية بمقطعٍ من أسطر، تفيد بأنّ الباخرة كلايف أفرغت خمسة صناديق شاي آسام أسود، وفي منتصف الرواية، يفرد الروائي نزار عبد الستار بضعةَ أسطرٍ لإخبارنا بأن الباخرة ذاتها أفرغت 55 صندوقاً من شاي آسام الأسود قبل أن تبحر إلى لندن. وفي الصفحة 199 من الرواية، يفرد الروائي نزار عبد الستار، بتكنيكٍ مُمنهجٍ بضعةَ أسطر، بأنّ الباخرة كلايف أفرغت 120 صندوقاً من شاي آسام أسود، وهنا إضافةٌ جديدةٌ ستشعل موجة الاغتيالات في البصرة، تتمثل في إنزال الباخرة لخمس نساء من فرقة دم القمر.
لانكستر لا يعيش من دون حروب، وهو مصرٌّ على إحراز النصر في حرب الشاي، لأنه لا يعيش من دون انتصارات إثباتاً لذاته ولإنكليزيته وخدمة التاج البريطاني، وكأيِّ حربٍ تُستخدم فيها جميعُ الوسائل، أخذ يشيعُ معلوماتٍ مُبالغٍ فيها عن فوائد الشاي الجمّة، أولها زيادة الإخصاب عند الذكور، وبرّر له لماذا البصرة نفوسهم 20 ألفا لأنهم لا يشربون الشاي، إنها الحرب بكلِّ خداعها وحيلها التي لا تخطرُ على بال.
في صباح اليوم الذي أعلن فيه لانكستر انتصار الشاي على القهوة وسط حاشيته، حدث بعد ذلك اغتيال لانكستر. في شرفة المقيمية، جاء الصيني هانفو لمقابلته، وكان قد تعامل معه سابقاً في شراء الشاي لغرضٍ مبيتٍ في داخله، وبعد كلماتٍ بينهما، أشهر الصيني مسدسه ووجّه فوهته إلى جبين عزيز، فقال له الصيني بكل غريزة الانتقام» هذا لأجل الصينيين الذي قتلتهم بالأفيون سيدي الأميرال»: ص263.
تفتح النهاية باب تأويل مشهد الأدميرال وهو يشهر المسدس نحو لوحةٍ فنيةٍ تمثل السيدة بريطانيا، بأنَّ كلَّ ما عمله لأجل مجده الشخصي، وليس لبريطانيا العظمى، فهل كان ينتقمُ بإشهاره المسدّس نحو اللوحة من كلّ من عيّره بأنَّ عروقه ليست انكليزية مع أنّه خدم بريطانيا أكثر منهم؟