د. صادق كاظم
احتاج العراق إلى 11 عاما كاملة قبل أن يتمكن فيصل بن الشريف حسين أول ملك للعراق في تاريخه الحديث من إقناع عصبة الأمم بأن العراق أصبح دولة ناضجة ومؤهلة للانضمام إلى عصبة الأمم، بعد أن استوفى جميع الشروط المطلوبة منه، وهو نجاح يحسب إلى رجالات ذلك العهد، الذين كانوا يملكون من الخبرة والمهارة، ما جعلهم يقودون هذا الملف بنجاح، ويصبح أول بلد في المنطقة يدخل إلى هذه العصبة الأممية، التي ولدت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، من أجل منع الحروب والسيطرة على النزاعات المسلحة.
كان العراق في العهد الملكي غنيًّا بالخبرات الإداريَّة والسياسيَّة التي اسعفت النظام ومكنته من الوقوف على قدميه وتجاوز مختلف التحديات والصعاب التي مرت بها البلاد ومن ضمنها قضية المطالبة التركيَّة بولاية الموصل وكذلك التمردات الداخلية التي قمعت بشدة من قبل الجيش، حيث نجح فيصل في اقناع البريطانيين والفرنسيين في اعادة الموصل إلى العراق مقابل تفاهم بريطاني فرنسي حول الحدود السورية – التركية، اضف إلى ذلك الحماس البريطاني الراغب بمنح العراق الاستقلال الشكلي، من أجل امتصاص غضب المعارضة الشعبية المتزايدة للنفوذ البريطاني داخل العراق، والذي أسهم في دفع المطلب العراقي بقوة نحو التقدم في النهاية.
حاول فيصل أن يتبنى سياسة واقعيَّة في التعامل الذكي مع البريطانيين، من خلال سياسة التأني التدريجي في طرح المطالب، وعدم التنازل عنها وهو ما أثار حفيظة الانكليز، الذين كانوا يشعرون بثقل فيصل، وتاثيره الداخلي المتزايد وتشجيعه السري لأحزاب المعارضة العراقية، لتشديد مطالبها بالاستقلال عن السياسة البريطانية، وضمان حرية أوسع للعراق بمعزلٍ عن التأثير والنفوذ البريطاني.
لم يقدر لفيصل الاول صانع الاستقلال أن يرى بأم عينيه أحوال البلاد، بعد نجاح مشروعه السياسي في إعلان الاستقلال وتخفيف قيود الانتداب عليه، اذ توفي بعد عام نتيجة مرض خطير عانى منه، حيث دخلت البلاد بعده في دوامة من الانقلابات والصراعات السياسيَّة، وتزايد نفوذ الجيش وتدخله في الحياة السياسيَّة للبلاد، وهو ما لم يكن موجودًا في عهد فيصل، الذي كان بارعًا في ضبط التحالفات والتوازنات وولاء الجيش الكامل له، حيث شهدت البلاد عدة متغيرات، لكن هيكل النظام عموما ظلَّ ثابتًا وقويًّا، مع وجود ساسة مخضرمين كنوري السعيد، الذي كان رجل النظام القوي والحليف المقرب من لندن، والذي يصنف على أنَّه من تلاميذ فيصل، وأحد واضعي أسس المدرسة الواقعيَّة في السياسة، حيث نجح السعيد في جعل العراق دولة محورية مهمة في المنطقة ذات نفوذ وتأثير كبير عليها، وكانت معظم دول المنطقة تتأثر بموقف العراق في مختلف قضاياها.
تجربة النظام الملكي، الذي شهد إعلان استقلال العراق على يدي رجالاته، وإن كان تابعًا للمملكة المتحدة، التي كانت تحرص على تعميق نفوذه فيه، إلا أنه يبقى نظامًا ليبراليًّا كان فيه قدرٌ معقولٌ من مظاهر الحياة البرلمانية، وتعدد الأحزاب وحرية الصحافة، إلا أنه كان يعاني من أمراض الانسداد السياسي وإصابة رجالاته بالشيخوخة ومحافظتهم على التحالف الأزلي والمزمن مع بريطانيا، وتجاهل التغييرات السياسيَّة الكبيرة التي أصابت العالم والمنطقة، مع صعود الزعيم المصري جمال عبد الناصر، الذي استغل نجاح الثورة المصرية للإطاحة بالنظام الملكي المصري لتوجيه ضغوطه نحو بغداد، والتحريض لإسقاط النظام الملكي فيه، وهو ما تحقق فعلا في تموز من العام 1958.