ذاكرة الحروب والأثر الإبداعي

ثقافة 2023/10/11
...

 استطلاع: صلاح حسن السيلاوي 

إنها الذاكرة العراقيَّة، ذاكرة تزدحم بالمتناقضات، إذ لم تخل مرحلة زمنيّة من حرب، ولم تفتقر أخرى من نعمة وتبغدد منقطع النظير، ذاكرة يفيض بها رافدان، أو يجدبان، زمن تراكم به غبار الحضارات حتى لا يرفع باحث التراب إلا عن حضارة فوق أخرى، ذاكرة مشحونة بالألم والسعادات، بالفقد الغزير واللقاءات المجروحة، والغناء المبلل بدمع الأمهات. أمام كل ذلك أتساءل: هل تجد ذاكرة المثقف تمثل مَعِيناً صافياً لصناعة منجز أدبي وثقافي خالٍ من آثار وشوائب الماضي، وهل أنجزت هذه الذاكرة ثقافة توازي خطورة ما مرت به مشكلات على مستوى نقد الأحداث وتحليلها وصناعة الحلول لمواجهة مثيلاتها؟، ما أهم ما تختزنه ذاكرتك من مواقف إنسانيّة أبداها مثقف عراقي، مواقف تنتمي لمواجهة الخراب والعنف والتردي والفساد الذي استشرى على مدى عقود ماضية؟.

أحداث مؤثرة في الوجدان العراقي 

الشاعر عمر الدليمي، يعتقد في إجابته أن المؤسسة الثقافيّة العراقيّة المدنيّة، بكل تفرعاتها الممثلة بالاشتغالات الفكريّة والادبيّة والفنيّة، تكاد تكون المؤسسة الوحيدة التي استطاعت أن تنجو بنفسها من ذلك الأتون المهلك المتمثل بالعنف الديني والطائفي والقومي، الذي سقط به العراق وما زال يعاني آثاره أثر الاحتلال الأمريكي.

مشيراً إلى أن هذا بحد ذاته يمثل قصة نجاح كبيرة مردها إلى الوعي العالي والحس الاستشرافي الذي تتمتع به الطبقة المثقفة.  

وأضاف الدليمي موضحا: من المؤكد أن النسبة تختلف ما بين تفرعات هذه المنظومة الثقافيّة نظرا لطبيعة ونوعية العمل الثقافي الذي تضطلع به إذ نجد أن الأدباء يأتون في طليعة هذه المؤسسة كونهم الأكثر اطلاعا والأقرب إلى ملامسة الواقع وصناعة الحلم فيه، الحلم برقي الإنسان وتسامي انسانيته، وتحدي العنف بشجاعة كبيرة ومثالي على ذلك الشهيد الكاتب مؤيد سامي، الذي بقي يمارس عمله على الرغم من المخاطر واتساع تمظهرات العنف الطائفي في محافظة ديالى، ما أدى إلى استشهاده بعملية إرهابية 

جبانة. 

وأعتقد أن انجاز عمل أدبي يسلط الضوء على كل تلك الفترة الممتدة من أحداث قاعة الخلد عام 1979، مرورا بالهجمة البربريّة المروعة على اليسار السياسي العراقي وما تلا ذلك من أحداث الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وصولاً ليومنا هذا، مازال ممكناً جداً كون تلك الأحداث ما زالت حيّة مؤثرة في الوجدان العراقي وهي ثريّة بالتفاصيل التي تتيح للأدباء إنجاز أعمال مهمة خاصة في الرواية، وهذا الجنس الأدبي هو الأقرب لاستيعاب تلك الأحداث وتمثلها واستجلاء كوامنها.

شخصياً أترقب صدور أعمال مهمة للروائيين العراقيين، تسلط الضوء على تلك المساحة الزمنيّة الرهيبة، بتحولاتها وأحداثها انطلاقاً من قناعتي أن أدب الحرب المهم هو ما يكتب بعد أن تضع الحرب أوزارها وأظن أننا ما زلنا نخوض الصراع مع التطرف والعنف والفساد وما زال أمامنا عمل شاق من أجل أن نستعيد العراق. 


حمولة ثقافيَّة متداخلة 

القاص ميثم الخزرجي، يرى أن الأديب الحقيقي هو الناطق الرسمي بلسان حال شعبه تبعاً لمدوّنته الفعليّة التي أرّخ بها أبلغ الوقائع التي حصلت في أوانه والتي من المفترض أن لا يضفي عليها سمة التلاعب الخيلائي فهو المؤتمن على ما ينصّه الواقع بعناية وحرص وهذا ما عرفته العرب قديماً والتي أوكلت له مهمة تأرخة الأحداث بمساراتها المختلفة وأحسب أن اشتراطات الإجادة فيما يخطه الأديب خضعت لسمات عديدة أهمها هو عدم الخضوع والتنازل والتماهي مع السلطات الفاشية والقمعيّة إمعانا لمكاسب ماليّة أو اجتماعيّة؛ لذا أجد أن المواقف المشكّلة لترميم ملامح الأديب ككيان منتج هو النزوع نحو الأسئلة التي اغتم بها واقعه وإثارة معطياتها بعدّة فنيّة لها قوامها المتحرك غير المكبل بأغلال تابعه أو منحازة.

وأضاف الخزرجي بقوله: واقعاً نحن بحاجة إلى غربلة المشهد الأدبي بإنصاف محتكمين إلى قرارات تهذّب الكثير من الأسماء التي تسلّقت وصفّقت وزمّرت للحكومات السابقة والآنية وأكلت من غنائم السلطة مبررين مجاورتهم لها بالعوز والفاقة التي كانوا يعانون منها في حين تجد أسماء مهمة انسحبت وترفّعت عن هذا الطريق بشرف وإباء لتكون شاهدة على حفلات الدم الصاخبة التي كانت تمارس مكرّسة هذه الحقبة بكل ما فيها من تداعيات في متونهم الأدبيّة على الرغم من انزوائهم بعيداً عن أعين الرقيب...

وهنا يكون الأديب الحقيقي قد تعافى من مرحلة الذل والخنوع والرقص على ويلات أبناء شعبه، لكن علينا أن نتساءل هل العوز المادي سبب في أن يبيع الأديب ضميره وإن سلّمنا مكرهين بهذا الأمر، فما هي الرسالة التي يقدمها في طرحه، فيما إذا تجاهلنا هذا الراي فإننا نجد أن ثمة دافعاً نسقياً مخبوءاً يدفعه إلى خلق عالم منافٍ لواقعه طمعاً لما يرمى له من فتات، وقد ورد في الكثير من مدوّنات الأدباء بتمرير ذلك الطقس الوردي أزاء كم المحن التي عاشها الإنسان العراقي أو أن تسلّع وتسوّق لماهية العنف والتجنّي والإقصاء لتبث ثقافة رمادية من خلال الترويج لنصوص تعبوية غايتها الإطاحة بالقيم والمثل السامية المتمثلة بمشروع الأديب وكنه النص الذي يكتبه.

لعلَّ الإحاطة بذاكرة الأديب وذخيرته المعبّأة بالكثير من مجريات الواقع واعتمادها حكماً قطعياً أجدها نتيجة نسبيّة غير مطلقة فما بين متبنيات الأديب نفسه ومفهومه للحريّة، ناهيك عن دلالة المكان وما يترتب عليه من قيود مضمرة تبرّر ما نقوله بحكم طريقة تعاطيه مع النظرة المتبعة للواقع تخضع لحمولة ثقافية متداخلة. 

وعلى مدى مراحل عدة نجد أن هناك بيعاً رخيصاً وكاسداً يظهر من لدن فئة من الأدباء بالمقابل من هم على النقيض.. غير أني أتساءل، هل هناك تاريخ أدبي معقم من المجاملة والأخوانيات يدحض هذه الرداءة لنقي المشهد من المطبلين أم أن سمة التجاهل هي الشاخصة.

من الطبيعي أن قراءة التاريخ بأحداثه من خلال المدوّنة الأدبيّة يحتاج إلى مصداقية من قبل الأديب في ماهية النقل والتدوين ولو أجاز لنا القول إن تجنيس الوقائع التاريخيّة بعدة فنية لها أثرها أزاء المتلقي، لعلّها أسهل هضماً ومستوفية الشروط الفعليّة لما جمالي. 


رصَّ الأحداث بالألم الجمعي 

الشاعر يوسف حسين الهيازعي وضع إجابته في ثلاث نقاط هي :1- في مهرجان إبداعنا عام 2005 حصل الأديب محي الدين زنكنة على الجائزة الثانية في النصوص المسرحية عن مسرحية الجنزير والتي أدت تمثيلها فرقة المسرح البصري وقد حصل الأديب على مبلغ 500 ألف دينار مكافأة المركز الثاني وبعد تسلم المبلغ أعطاه إلى الفرقة المسرحية ولم يأخذ منه فلسا

واحدا.

2 - ذاكرة المثقف العراقي ذاكرة فذة وعملاقة تختزن الأحداث بالتفصيل، ولها قدرة على الوقوف على الأحداث كافة لكن المثقف العراقي يعد التدوين بلا جدوى لأنَّ كل العراقيين وهم يعيشون عمرا واحدا يعتبرون أنفسهم مبرمجين على النسيان والتناسي ربما بحكم رصّ الأحداث بالألم الجمعي يكون حالة واحدة وأن أدب الحرب أدب تعبوي انقضى أجله فلا فائدة من التدوين لأنّهم يمتلكون ذاكرة جمعية واحدة.

3 - في كل قرن زمني يمر العراقيون بأحداث متناقضة؛ لذا فإنّها إفراز متباين لأنَّ الأحداث تضرب عموم الناس أي أن العراقيين يموتون موتاً واحداً أو دفعة

واحدة.


فخاخ الذاكرة 

الشاعر الدكتورعماد العبيدي، يرى أنّ الذاكرة العراقية وبالخصوص ذاكرة المثقف، تمثل عينة عظيمة من الذاكرات الإنسانية الخصبة، بوصفها مادة أولية للإبداع السردي والشعري والفني بشكل عام، والنقدي أيضا لما تمتلكه هذه الذاكرة من خزين إبداعي مترامي الأطراف، وغزير بالرؤى والافكار والمعاني المختلفة والمؤتلفة والمتنوعة، ويشير العبيدي برأيه إلى ضرورة الالتفات لخطر ما تختزنه هذه الذاكرة من عنف، على مدى عقود وقرون طويلة، لافتا إلى أن ذلك الخطر يكمن في كيفية تعامل المثقف معها، حين تكون منبعا أو مرتكزا لمواضيعه الإبداعية، وأضاف مبينا: إنّ الخطورة هنا في كيفية استثمار المبدع لماهية تلك الذاكرة المزدحمة بصور العنف والدم عبر حروب طويلة، ما زلنا نشاهد آثارها على الأرض والانسان، فنحن حتى الان نسمع بين حين وآخر عن ألغام موجودة في البصرة، أو نرى أن السيول تجرف جثة جندي عراقي كان مفقودا في الحرب العراقية الايرانية أو أخبار وصور كهذه هنا أو هناك.

إنَّ مثل هذه الذاكرة يمكن أن تكون فخا إن لم يستطع مثقف استثمارها جيدا، إن لم يكن تفكير المثقف إيجابيا، إن لم يستطع جعل هذه الذاكرة منبعا للحكمة وطريقا للسلام، إذ يمكن أن تكون جدارا لتعليق الاحزان وبث الأفكار السلبية.

الذاكرة العراقية متحف إنساني كبير يمكن للعارف ان يتجول في أروقته العظيمة، وأن ينقل لنا منه ما ينفع وهو كثير وكثير في تلك الذاكرة التي قل نظيرها. 


متاهة لعبة الوعي 

القاص محمد الميالي قال: تبقى ثقافة الفكر المستورد هي المحرّك الأول الذي يتحكم بالثقافة العربيّة، وما بين ثقافة الغرب وآيديولوجياتها، وثقافة الشرق وآيديولوجياته، ضياع وأسباب صراع، يؤججها الانتماء إلى هذه الأفكار، ومن ثمَّ يقع المثقف العربي في متاهة لعبة الوعي التي ولِهَ بها وتبناها، لذلك نجد أن المثقف وإن لهج لسانه بهموم بلده وشعبه، إلا أن هيمنة الفكر الذي ينتمي له هي الغاية وهي المحفز الأول، وهنا لسنا بصدد تخوين أو عمالة، وإنما حقيقة أو لنقُل التيه الذي وقع فيه المثقف، أي أنه وقع في شباك تلك اللعبة وهي لعبة الوعي، والتي عبثت بأدوات ومجسّات تفكيره، لذلك لا يمكن أن نجزم من أن فكر المثقف العربي بشكل عام والعراقي بشكل خاص، هو حر وغير مقيد بانتماءات فكريّة معينة، قد تندر حالة الاستقلالية في الأوساط الثقافية، وتقتصر على الميول فقط، وهذا أيضا يعد مؤثرا، كون كل الأحزاب السياسية ما يهمها السلطة ومصلحة الحزب لا الوطن، أما الوطن فهو مجرد شعار تتبناه المجموعة وكذلك الفرد المثقف

وغيره.

حتى نتحقق مما نقوله ونقف عند حقيقة هذا الأمر الذي يعد شائكا، علينا النظر إلى تجربة الديمقراطية في العراق، سنرى المنظومة الثقافية معظمها لها اصطفافات معينة، أو لنقل أن أحزابا مشاركة تنتمي لها أو تميل فكريا صوبها، حتى نقف عند آخر حالة انتماء فنراها تحمل لافتة عقائديّة معينة، ثم نعود قليلا إلى النصف الأخير من القرن الماضي، ونتصفح سيرة البعض من المثقفين الأكثر شهرة، نجد أن أغلبهم ساروا على السجادة الحمراء التي تأخذهم إلى البلاط، وهناك سنرى موقفين متضادين، الأول مع حاكم ما، والثاني ضد حاكم آخر، ولنقف عند درجة تحقيق نقية، نقول هل الأول حاكم وطني والآخر لا..؟ 

والنتيجة نلاحظ أن كلا الحاكمين من رحم واحد، أو من حاضنة غربية أو شرقية واحدة، وبهذا سقطت حروف المثقف المعني وأصبحت لا قيمة وطنية لها، وتلافيا للحرج ابتعدت عن ذكر الأسماء.

وأضاف الميالي أيضا: أما من كان قلمه حرّاً كان أخرس لتقية، فقد كان فوق كل كلمة حرة حبل متدلٍّ يهدد بالموت، أو رصاصة تحت سلطة أحمق همه التقرّب إلى مولاه ولو بقطع الرقاب، وقد نزفت ساحات الحرية دماء كثيرة، ولكن لا تحمل هوية المثقف إلا ما ندر.

الآن وقد دفئت ساحة النقد، وأمن الجميع، صدحت الأفواه وكتبت الأقلام بجرأة لم يشهدها تاريخ العالم بأسره، منذ عام 2003 وحتى الآن، ونال المثقف من السياسي والفاسد من دون حذر ولا مبالاة، ولكن ليس كل حزب أو تيار، بل هناك من لم يجرؤ أحد من المثقفين النيل منه بشكل صريح، إلا ما يقال عنه في الظل.

وأغلب من كتب من المثقفين لو إلتقى بسياسي وكان قبل ساعة قد عراه فيها من كل فضيلة، وألبسه ثوب الفساد والعمالة، سيلتقط معه صورة وهو منتشيا، ومنهم من ينشرها على صفحته الشخصية، وأكاد أجزم أن نسبة 95 بالمئة من المثقفين ينتمون إلى الأحزاب السياسية، ويعتقد كل منهم أن حزبه هو من يستحق حكم العراق.

والسؤال الأكثر أهمية هو: 

هل يستطيع المثقف أن يغير من الوضع العام شيئاً، وهل يتمكن من أن يسهم في وعي الجمهور، أم أنه في حال من الأحوال يجد نفسه يسير خلف العقل الجمعي ..؟.

الجواب، إن المثقف لا يستطيع مطلقا، لا الأديب ولا الفنان ولا الصحفي ولا الأستاذ الجامعي، كون الأمر مسيّراً من قبل دول الاستكبار العالمي، وكل الحكومات تابعة لها، وهي من تتحكّم بكل الأحجار فوق الرقعة، وشعار (أعطني خبزاً ومسرحاً أعطك شعباً مثقفاً) هو مجرد فقاعة تبهر الناظر لا أكثر، لا يوجد فيها سوى

الهواء.

وكل ما تذكرت موقفاً مشرفاً، سرعان ما ينقضه موقف آخر لنفس المثقف، من الماضين والمعاصرين، مع خالص الاحترام لأصحاب المبدأ الثابت، ويبقى الصراع ما بين اليسار واليمين قائم والضحية الشعب.