حسن السلمان
يعدُّ المكان من أهمِّ عناصر النصّ الروائي إلى جانب الزمان والحدث والشخصيات والحبكة سواء كان واقعياً أم متخيلاً، وعلى مختلف مستويات توصيفاته وأنواعه التي حددها الكاتب والروائي الأردني غالب هلسا في كتابه "المكان في الرواية العربيّة"، حيث هناك "المكان المجازي" بوصفه مجردَ حيزٍ مادي تجري عليه الأحداث من دون تفاعل مع بقية عناصر النص كما لو أنه خشبة مسرح، أو "هندسياً" من خلال وصف تصميمه المعماري، أو بوصفة تجربة شخصية ذات علاقة متبادلة مابينها وبين بقية عناصر النص وارسالياته السرديّة.
انطلاقاً من توصيف المكان بوصفه تجربة، تدور أحداث رواية الشاعر والروائي الشاب أحمد شمس المعنونة بـ "شوارع الوجود".
فابتداءً من العنونة التي تشي بهيمنة ثيمة المكان ودلالاته على مجمل الفضاء الروائي، ومروراً بمجريات أحداث المتن وأجوائه الدراميّة، يتضح أن المكان هنا يأتي كتجربة معاشة لتشكيل الذاكرة الشخصيّة بشكل تفاعلي ما بينها وما بين ما يطرأ على المكان من تغيرات وتأثيرات على الشخصية المحوريّة في النص.
في هذه الرواية التي تجري أغلب أحداثها في محافظة ميسان، يختار الكاتب شارع "التربية"، وهو من أهم شوارع المحافظة التجارية، ليكشف عبر شخصيته المحوريّة أن هذا المكان/ الشارع في حقيقته، هو السبيل الوحيد لتحقيق وجوده ومنحه قيمة ومعنى عبر التفاعل معه ككائن حي وليس مجرد حجارة ومعالم عمرانيَّة: "أدركت حينها أن هذا الشارع لاتربطني به المحلات التجارية، ولا النساء ولا رفقة الأصدقاء، انما هي علاقة بمكان صرت أحبه وإن كان مشوّه الوجه، تتسع فيه روحي وتتحد معه بكل ما فيه من روح اجتماعية عالية تطورت إلى هذا الشكل الذي يشبه رابطاً بين عاشق وشجرة كانت تظلله مع حبيبته ذات يوم.. بعض الأماكن تتسامى إلى رتبة القيمة لتمثل معنى لا غنى عنه، وترتبط بحياة الإنسان على أنها جزء من معانيها وما يحققها، فالقيمة في الغالب تأتي من تحقيق الذات، أو مما نرى فيه صورة معنوية لنا".
مما تقدم يتضح بأن هذا الاعتراف السردي ماهو إلا معادل موضوعي للتعبير عن مكنونات الشخصية وعلاقتها بالمكان بصورة عاطفيّة وفكريّة في الوقت نفسه، لذلك فإنّ الابتعاد عن المكان بصورتهِ كما تمّ التطرّق إليها يعد نكسة نفسيّة عميقة، إذ إنه ليس ابتعاداً عن مدينةٍ وأسواقٍ وشوارعَ ومقاهٍ معزولة عن العواطف الاجتماعية وتفاعلاتها مع رمزيّة المكان المعنويّة بقدر ما هو وداع لذاكرةٍ ومشاعرَ ووجودٍ حي سيفقد مبررات وجوده بمجرد طيّ صفحته، وذلك حينما تحتم الظروف على شخصية الرواية المحورية الابتعاد عن "شوارع وجودها" لإكمال دراسته الجامعية في بغداد: "عشية سفري إلى بغداد وبعد أن عدت من "شارع التربية" الذي طفت فيه طواف اللائذين تتراءى أمامي صورتي وأنا أودع مدينة بأسرها تمتد من طفولتي الشاسعة وحتى الولع المحموم بشوارعها وأزقتها".