الروائي اللبناني والفرنسي أمين معلوف : هذه غرفتي / كاتدرائيتي
يقظان التقي
كانت قذيفة سقطت تحت شباك غرفة أمين معلوف في الحرب الأهلية اللبنانية العام 1975، سبباً لخيارعقلاني، الهجرة من لبنان إلى العاصمة الفرنسية والسخرية والتمرد على فوضى العنف والكراهية والفلتان الداخلي، وهرباً من أوضاع زمن لا يتمتع بالمرح الكافي. من حيّ”عين الرمانة”، الموازي تماماً لمتحف بيروت عند تقاطع البيروتين بدأت تتبلورنظرات ابن عائلة معلوف الشهيرة، وفلسفته في الانتفاضة على قيم الحواجز والمعابر والتقاليد السائدة وبتعارض مع انزياحات والده إلى الجبهة اللبنانية. فكان التمرد المطلوب على أبيه وبيئته، والانتقال إلى ما تعنيه بيروت الغربية والقضية الفلسطينية.
الشاب المولع بالألعاب الستراتيجية (لعبة ستراتيجي)، في محاولة الإطاحة بالخصم خاض معركته الأخيرة في الكاتدرائية الفرنسية وألقى بخصمه في البحر، واستولى على كرسي الكاتدرائية مدى الحياة.
سعادة أمين معلوف لا توصف في تراكم معرفي وخيار قاده إلى حيث ما يشتهي، وإن في نظرات رومنطقية متاخرة إلى كل من وقف في وجهه، حيث عمل في لبنان وخلف البحر. حدث مهم في الأوساط العلمية الثقافية في فرنسا وباريس خاصة، لمجْمع تعود الوصاية الكبرى عليه لرئيس الجمهورية، ويحل أمين سره بالمرتبة 24 في تراتبية الدولة الفرنسية. هو حدثٌ استثنائي لأن من يشغَل هذا المنصب شأنُه شأنَ الأربعين عضواً من أعضاء الأكاديمية يبقون في مقاعدهم (لكل واحد رقم) مدى الحياة، وعند شغور المقعد يقع التنافس عليه بترشيحات تتنافس بلا هوادة بهذا المقام الرفيع في جمهورية الآداب والعلوم. لا يضاهيها إلا”الكوليج دو فرانس”أعلى مؤسسة أكاديمية للتدريس بإشراف صفوة الباحثين. المرشّحُ واحد، وهو كاتب مكرّس وشخص رصينٌ، لبِقٌ، ومحبوبٌ من زملائه، تشهد له مؤهلاته وسيرته العطرة بجدارته لهذا المنصب، أبرزها حصوله على جائزة الغونكور الكبرى للرواية في فرنسا (1992) ومؤلفاته التي حازت شهرة عالمية من أبرزها”ليون الإفريقي”(1986) و”الهويات القاتلة”(1998)، وحلقةِ وصل بين لغات وثقافات، ورسولٍ منفتح متشبِّعٍ بالإنسانيات، وهو زيادة على هذا وذاك على خلق عظيم.
كان كل شيء يمضي عادياً (الروائي أحمد المديني)، والخلف بعد وفاة دانكوس شبه معين ولا خُلف بين أهل الدار؛ إلى أن طرح العضو جان كريستوف روفان Jean Christophe Rufin نفسه مرشحاً على كرسي الأمانة الدائمة للأكاديمية.
وفي الأخير مُنِي بخيبة أمل، إذ خرج صاحب”الحروب الصليبية كما رآها العرب”بـ 24 صوتاً مقابل ثمانية أصوات للمرشح الخاسر روفان.
هذه النتيجة حسمت ستراتيجياً في الجولة الأولى بلا جدال مع أمين عام جديد متعدد اللغات والثقافات و”من كبار رموز الفرنكوفونية. هذه السعادة الطارئة المستجدة والمستحقة لن تلهي اللبنانيين عن حرائق السياسة والأوضاع وسيول الطرقات وجبال النفايات والتلوث. هذا لبنان آخر غير سرقة المودعين وتدهور القطاعات على المستويات كافة في أعنف أزمة اقتصادية واجتماعية ومالية يتعرض لها البلد، بسبب فشل النظام السياسي وتفشِّي الفساد التشاركي بين الأحزاب والعائلات الطائفية. لكن أمين معلوف طرح تفكيراً آخر، خيار التراكم المعرفي، سلطة الثقافة، المجتمع المفتوح، اللغة لإنجاز، وضع فيه اسم بلاده في الأعلى، على أرض أخرى تحكمها مؤسسات دستورية وقانونية وحداثة منجزة وجمهورية علمانية في التحييد الديني عن السياسي.بالنهاية سلطة الأكاديمية توازي السلطات الأخرى التشريعية والتنفيذية معنوياً،كاتدرائية ثقافية تمتد ضلوعها بين الإسكندرية وبيروت وباريس وسمرقند (جامعاً فيها بين غرق باخرة”تيتانيك”الشهيرة و”رباعيات”الشاعر الفارسي عمر الخيام وفرقة الحشاشين، وهذه الرواية بدت غاية في الطرافة والسحر لأنها ارتقت بالحدث التاريخي إلى مصاف الحدث المتخيل،) تؤشر إلى القيمة المعاصرة لجماليات رومنطقية متأخرة في عالم يجري بلا أفكار، تؤشر إلى حلم الهجرة، حلم الديمقراطية والحرية والمؤانسة مع الكل الآخر بكل متاعبه، من غرفة موسيقية إلى أخرى، بالإشارة إلى الحملات النقدية التي تواجهها الأكاديمية منذ أعوام فهي لا تزال وطنية وتمثل دور حارسة اللغة الفرنسية والساهرة على سلامتها وسلامة الأدب الفرنسي والساعية إلى عصرنة اللغة وتطويرها انطلاقاً من حرصها على أصالتها، وقد جلب ذلك حملات ضدها وعناوين أو شعارات صارخة، ومنها على سبيل المثال”هل لا تزال الأكاديمية ذات نفع؟”و”هل وصلت إلى نهايتها؟”أو”إذا اختفت الأكاديمية غداً فلن يتأثر أحد”، و”الأكاديمية الفرنسية ضد اللغة الفرنسية”. ومن الشائع أن الأكاديمية التي أسست العام 1635 لم تُصدر حتى الآن سوى 8 قواميس لغوية والتاسع قد يصدر هذه السنة.
ويطرح السؤال أكثير عما اذا كانت هناك فرانكفونية، وذهبت مجلة”إكسبرس” في مقالة عنوانها ”لماذا يجب إلغاء الأكاديمية الفرنسية؟”، بينما عنونت مجلة”لوبس”أحد أعدادها بـ”الأكاديمية معطلة”.هذا مع انفتاح الأكاديمية على أسماء كبيرة في الأدب الفرنكفوني. خريطة انتشار اللغة الفرنسية وانتشارها يدل على التزامها العالمي. ماريو بارغاس بوسا ليس الأجنبي الأول الذي يدخل رحابها، فقد سبقه أدباء متنوعو الهويات ومنهم الجزائرية آسيا جبار، والصيني فرانسوت شينغ والبريطاني ميكايل ادواردز والإيطالي موريزو سيرا. اذا هي قصة أمين معلوف، مثل أعماله، تجعل منه رجلاً عابراً للحدود، مصمماً على”تقويض”، و”هدم” ما سماه في خطاب ألقاه في الأكاديمية العام 2011”جدار الكراهية بين الأوروبيين والأفارقة، وبين الغرب والإسلام، بين اليهود والعرب”(لوموند). منذ كتابه الأول”الحوارات الصليبية التي رآها العرب”عام 1983، حيث ظهر كاتباً قادراً على بناء الجسور بين الثقافات والانتماءات. ولد أمين معلوف عام 1949 لأم كاثوليكية من الإقلية الملكية اليونانية، وأب بروتستانتي، حفيد تركي متزوج من مصرية مارونية، تلقَّى تعليمه في المدرسة اليسوعية الفرنسية، في سن العشرين أصبح صحافياً مثل والده، قام بتغطية الأخبار عن حرب فيتنام، ومن أثيويبا، والثورة الإيرانية.. حاول أمين معلوف، جاهداً، بكل ما استطاع، وعبر أجناس كتابية متنوعة أن يدافع عن مَثَله الأعلى في الحياة، التسامح والتصالح مع الآخر المختلف، فهو القادم من بلد فسيفساء وبلد تعددي، يريد لهذه التعددية أن تنجح في كل مكان. تبقى مسألة جاذبية معلوف الذي يبدو كهنوتياً كفاية لإدخال عناصر جديدة إلى المؤسسة. ومن بين المهمات المعلنة منذ زمن بعيد في هذا الإطار، إدخال مزيد من العناصر الشابة والنساء إلى الأكاديمية المؤلفة حالياً من 28 رجلاً وسبع نساء، هوهدف يصعب جداً تحقيقه. وثمة خمسة مقاعد شاغرة في الأكاديمية الفرنسية حالياً. لكن هناك صعوبة واضحة في انتخاب أعضاء أصغر سناً، ما تجلَّى من خلال فشل ضم فريديريك بيغبيدير، أو بونوا دوتورتر إلى الأكاديمية عام 2022.