وليم هاتشينز: أنا أول من ترجم ثلاثية نجيب محفوظ إلى اللغة الإنجليزية
حاورته: فليحة حسن
وليم هاتشينز هو مترجم أميركي، حاصل على دكتوراه من جامعة شيكاغو 1971 في (لغات الشرق الأدنى)، ترجم 44 كتاباً وأكثر من 200 مقالة وقصة قصيرة.
* لماذا الترجمة بشكل عام، ولماذا الترجمة من اللغة العربية بشكل خاص، هل في هذه اللغة أسرار سعيتَ إلى اكتشافها، وكانت وسيلتك في ذلك هي الترجمة؟
- كان التحدي الأول قد جاءني من أحد طلاب الدراسات العليا في جامعة شيكاغو حينما سألني عن سبب دراستي للغة العربية، على الرغم من أنه لم يكن هناك أي شيء مكتوب فيها متوفر لنا .
أما المرحلة الثانية للتحدي فقد كانت عندما قمتُ بتدريس اللغة العربية في جامعة غانا (ليغون) لمدة ثلاث سنوات، وأردتُ أن أقدمَ مشروعًا يمكنني من خلاله إشراك عدد قليل من الطلبة الغانيين الجدد في اللغة العربية، وقد كانت حصيلة هذا الجهد في النهاية ترجمتي لمسرحيات توفيق الحكيم في مجلدين، ولم يتم نشرها إلا بعد مغادرتي غانا.
* يبدو أن غالبية الكتب التي قمتَ بترجمتها حصدتْ جوائز عالمية، فما السرّ في ذلك؟
- نعم لقد كنتُ محظوظًا، وبعض من ترجماتي فازتْ بجوائز بطريقة وأخرى، فقد كان هناك زمن كانت فيه الصحف الأميركية تقوم بشكل روتيني بمراجعة الكتب الجديدة، أما الآن فنادراً ما يحدث هذا، خاصة بالنسبة للترجمات من اللغات الأخرى، يمكن أن تكون الجوائز وسيلة لكسب بعض الدعاية، لقد عشتُ أيضًا وترجمتُ لفترة كافية حتى حققتْ بعض ترجماتي بعض النجاح في النهاية.
* كمؤلف ومترجم وأستاذ جامعي، أي الأعمال أكثر صعوبة من غيرها، التأليف أم الترجمة أم التدريس، وفي أيها تكتنز المتعة؟
- لقد كنتُ محظوظاً بما فيه الكفاية حين قضيتُ أسبوعاً في البحرين كضيف في إحدى جامعاتها، التقيتُ في ذلك الأسبوع أعضاء نادي الكتاب البحريني، الذين سخروا بمرح من المترجمين بشكل عام، ووصفوهم بالمؤلفين الفاشلين.
كما أنني كتبتُ روايتين وقمتُ بمراجعتهما ولكني لا أخطط لمحاولة نشرهما خوفًا من إزعاج شخص ما عن غير قصد، وقد عرض عليَّ أحد المؤلفين الذين قمتُ بترجمة أعماله من العربية إلى الإنجليزية أن أقوم بترجمة إحدى هذه الروايات إلى العربية، لكن ربما لا تكون هذه فكرة جيدة أيضًا.
لقد قمتُ بتدريس اللغة العربية في جامعتي مرتين، ولكن بفارق عشرين عامًا بينهما تقريبًا، ودعمتُ نفسي وعائلتي من خلال التدريس في قسم الفلسفة والدين، حيث كنتُ أدرسُ أية مادة كانت تطلبُ مني تقريبًا.
الترجمة هي الشيء الذي وجدتُ أنه يمكنني القيام به في غانا أو في ولاية كارولينا الشمالية، وهذا هو واحد من عوامل انجذابي لها، أشعر بالحيرة عندما يفترض الأشخاص الذين لا يعرفونني أنني قد أمضيتُ عمرًا مبهجًا في تدريس الأدب المقارن، وما إلى ذلك.
* قمتَ بترجمة العديد من أعمال نجيب محفوظ، فهل تعرفتَ على تلك الأعمال بعد فوزه بجائزة نوبل أو قبلها؟ وبماذا استفاد نجيب محفوظ من اللغة الإنجليزية؟
- عندما كانت ابنتي صغيرة، أمضيتُ أنا وزوجتي سنة في القاهرة كمنحة، خلال تلك المدة سألتُ رئيس تحرير مطبعة الجامعة الأميركية بالقاهرة عن الكتاب الذي يرغبون بترجمته، فأرتني خزانة فيها مخطوطات مكدسة من الأرض إلى السقف لترجمات إلى الإنجليزية لثلاثية نجيب محفوظ، وقالت لي بحزن: “إن هذه الترجمات ليستْ بالجودة التي يمكن نشرها”، ولكنها طلبتْ مني أن أقدم لمطبعة الجامعة الأميركية بالقاهرة كتاباً مترجماً يحتوي على قصص قصيرة مصرية حديثة، فطلبتُ اقتراحات من العديد من الأصدقاء والخبراء في هذا المجال، وذهبتُ أيضًا إلى جميع المكتبات التي أمكنني العثور عليها في القاهرة، وابتعتُ جميع مختارات القصص القصيرة التي يمكن أن أجدها لمؤلف واحد، وقد طبع هذا الكتاب بعنوان “حكايات وقصص مصرية قصيرة” وصدر في طبعتين.
وأراد حينها العديد من كُتاب القاهرة أن أترجم قصصهم التي كتبوها عن “القرية”، والتي لم تكن لها أية صلة بمدينة القاهرة، وكانت هناك كاتبة - أتذكر أنني قد تناولتُ الشاي معها في شقتها - طلبتْ مني أن أقوم بإدراج عملها في تلك المختارات، لكنها رفضتْ منحي الإذن بترجمة القصص التي اختْرتها لها.
أعتقد أنه قبل عدة أشهر من فوز محفوظ بجائزة نوبل للآداب، طلب مني الرئيس الجديد لمطبعة الجامعة الأميركية بالقاهرة أن أفعل “أي شيء” لإنتاج نسخة إنجليزية قابلة للنشر “لثلاثية نجيب محفوظ”، غير أنني أصبحتُ جادًا بشأن هذا المشروع فقط عندما فاز محفوظ بجائزة نوبل، وحصلتْ جاكلين كيندي أوناسيس على حقوق طباعة هذا الكتاب، وحقوق نشر بعض من أعماله الأخرى، في دار “دبل دي” التي كانت تعمل بها آنذاك.
ولم أقابل محفوظ إلا بعد أن قمتُ بترجمة المجلدات الثلاثة، وأخبرتهُ أنه من الواضح أن الأمر تطلب مني جهداً كثيراً، ولكن هذا العمل يمثل جزءًا مني أيضاً، كونه أول عمل لمحفوظ تمت ترجمته إلى اللغة الإنجليزية - كما أخبرني أحدهم - لكن ذلك لم يرتقِ إلى مستوى توقعاته، وكانت سياسته بعد ذلك هي جعل الترجمة بالكامل وظيفة المترجم وحده، ولم يكن مسموحًا لي بطرح أكثر من سؤال واحد لكلّ مجلد، فطرحتُ أسئلتي الثلاثة بوجود امرأة جميلة كانت تصرخ بها في أذن محفوظ، لأنه كان أصم تمامًا.
عندما كنتُ طالب دراسات عليا في الجامعة الأميركية بالقاهرة قرأتُ أنا ومجموعتي رواية لنجيب محفوظ، وبعد سنوات نشرتْ مطبعة الجامعة الأميركية بالقاهرة ترجمتي لها.
* غالبية الشعراء الأميركان الذين ألتقيهم في الجلسات الأدبية، يرفضون رفضاً قاطعاً فكرة الترجمة إلى لغات أخرى، وعذرهم في ذلك عدم معرفتهم بهذه اللغة، وخوفهم من ضياع معنى قصائدهم بعد ترجمتها، على العكس من الشعراء العرب، فهم يرحبون بفكرة الترجمة حتى إلى اللغات التي تكاد أن تندرس، برأيك ما السبب في ذلك؟
- أما أنا فبعض الشعراء الأميركان الذين التقيتُهم في اجتماعات جمعية المترجمين الأدبية، يحبون استخدام قصائد من اللغات الأخرى كإلهام لهم لكتابة قصائدهم باللغة الإنجليزية، ولا أدري لماذا!.
* هناك من يرى أن المحلية هي الطريق الأكيد للعالمية، وهناك من يرى أن الاستغراق في المحلية سجنٌ فيها، فكيف للكاتب الطموح أن يتعامل مع هذين الرأيين؟
- لستُ متأكداً من ذلك، ولكن أعتقد أن هناك- وعلى مدى المئة عام الماضية- نزعة في الأدب العربي لتأطير قصة حياة الشخصية العربية في بلدها أكثر بكثير مما هو موجود في الأدب الأميركي.
* أحياناً ينتابني شيء من الضجر عند قراءة كتاب ما، غير أنني أجبر نفسي على مواصلة قراءته حتى النهاية، فهل صادف أن شعرتَ بالضجر أثناء ترجمة كتاب ما، وماذا فعلتَ حينها؟
- منذ أن دعمتُ نفسي مادياً بالتدريس، كان لدي ترف رفض ترجمة الأعمال التي لا أحبها، وقبل أن تُغلق مجلة “بانيبال”، طلب مني المحررون أن أترجم لهم العديد من القصص القصيرة أو فصول الروايات، فشكل لي ذلك الطلب متعة كبيرة، وكان هناك واحد فقط من تلك الأعمال، رأيته مثيرا للاشمئزاز لدرجة أنني لم أكن أرغب بترجمته مطلقاً، ولحسن الحظ لم أعدّ أتذكر اسم المؤلف.
* تقول الكاتبة الأيرلندية (أيريس مردوك): “ أستمتع بالترجمة وكأن شخصاً ما يفتح فمه لتستمع لصوت شخص آخر يصدر منه”، أما الفيلسوف الألماني (فيلهلم فون همبولت) فيقول: “تبدو لي الترجمة مجرد محاولة للقيام بمهمة مستحيلة”، كقراء للكتب المترجمة أي الرأيين علينا أن ننحاز له؟
- النهج الذي سأتبعه في الرد على هذا السؤال هو دحض رأي الأشخاص الذين يقولون لي إنني يجب عليَّ أن أتنحى جانبًا وأسمح للآلات بأن تقوم بترجمة كل شيء، فما أحاول تحقيقه أنا هو إعادة إنتاج الصدمة، أو الحالة المزاجية التي أثارتها في نفسي الفقرة المكتوبة باللغة العربية.
والقراء الأميركان يحبون إضافة تعليقات سلبية حتى على الترجمة الجيدة المنشورة في المجلات، تعليقات من مثل “بالطبع هذه الترجمة مروعة”، حسناً قل ذلك، لكن ماذا تفعل إذا فاجأك موت شخصية ثانوية في “قصر الشوق “، كيف تتعامل مع ذلك الحدث؟ - لقد فزتُ بالرهان- إذا جاز لنا التعبير- أعتقد بأن المترجم يمكنه توسيع نطاق التركيز في النص حتى بإضافة كلمات أخرى له، لنقل مشاعر اللحظة التي فيه، فالكلمة ليست هي المحور الوحيد قي الترجمة، وليست الوحدة الوحيدة للمعنى.
* إذا وقع في يدك كتاب بلغته الأصلية، وكنت قادرا على قراءته بهذه اللغة، ونفس الكتاب بنسخته المترجمة إلى اللغة الإنجليزية من قبل مترجم آخر غيرك، فأي النسختين تفضل قراءتها، ولماذا؟
- بدأتُ تعلم اللغة الفرنسية منذ الصغر، ولو أنني خُيرتُ بين الرواية الفرنسية الأصلية، والمترجمة إلى الإنجليزية منها، فسأختار النسخة الفرنسية، أما في ما يتعلق باللغة العربية فالأمر مختلف، لأنني مهتم بما يفعله مترجمو اللغة الإنجليزية في الروايات التي يترجمونها من اللغة العربية.
* التقاعد، تبدو هذه الكلمة قاسية، وحزينة، ويرفضها الكثير من المبدعين ويواصلون رحلتهم الإبداعية بمختلف أشكالها حتى آخر رمق لهم في الحياة، فماذا تعني لك هذه الكلمة؟
- “التقاعد” كلمة مروعة، ولها مجموعة واسعة من المعاني، فإذا سألتَ شخصاً في مثل سني: “ألم تتقاعد بعد؟” فهي ليست مجرد إهانة، بل إنها مثل الاعتداء، والكلمة الأسوأ في مثل هذا السياق هي “لا يزال”، مثل “هل ما زلت تترجم؟” أو “هل ما زلت تسبح؟” أو “هل ما زلت تعزف على آلة التشيللو؟”.