محمد جبير
شكّل فوز يون أو جون فوسه بجائزة نوبل للآداب هذا العام مفاجأةً للوسط الثقافي العربي الذي لم يرسخ اسمه في ذاكرته الثقافيَّة، إذ لم تحُقّق الترجمات التي صدرت مع مطلع القرن العشرين الشهرة المطلوبة ليكون الاسم راسخًا في ذاكرة المتلقّي، وهذه الحالة ليست بالجديدة، وإنّما هي طبيعية بسبب التلقّي الصعب للترجمات الغربية، إذ لا بدّ أن تسبق شهرة الكاتب نصوصه، بمعنى أنّه لا بد أن يسبق الترويج والتسويق للاسم الإبداعي قبل أن يصل نتاجه، أو يطرح علنًا في سوق الكتب، ولنا في الكثير من الأسماء التي حازت هذه الجائزة شواهد وأدلّة.
هذا لا يعني بالضرورة أنَّ الاسم غير شائع عربيًا، أو اسم غير معروف، أو متداول غربيًا، والحال هذا ينطبق على الكاتب النرويجي جون فوسه، فهو كتب نصوصًا درامية من مشهد واحد، وكاتب قصص أطفال، فضلًا عن كتابة الروايات القصيرة، وهو معروف في بلاده وعلى مستوى أوروبا، فضلًا عن الترجمات العديدة لأعماله إلى لغات عدّة، وهذا في حدّ ذاته يوضّح مدى حضوره في المشهد الإبداعي العالمي، على الرغم من أنّه يكتب بلغة محلّية لا تحظى بالشهرة على المستوى العالمي، وما ورد من مسوّغات في بيان الأكاديمية السويدية ومنحه الجائزة، فإنّ المفاجأة كانت عامّة للجميع، وهذا أيضًا ليس بالغريب في منح هذه الجائزة، فدائمًا ما كانت اللجان تفاجئ العالم باختيار الفائز، بدليل أنّها لم تمنح لكونديرا.
في نصّ فوسه القصير “صباح ومساء” إجابة واضحة عن سؤال روائي يتشكّل في متن النصّ، ألا وهو “ما معنى الحياة؟”، وهو من الأسئلة الوجودية الصعبة التي لا يمكن تقديم جواب شافٍ وكافٍ بعمل سردي قصير لا يتجاوز 130 صفحة، ومن خلال نظرة سريعة لما تناولته وسائل التواصل الاجتماعي من آراء بعد إعلان الجائزة تقاطعت الآراء، واختلفت في ما بينها، بين مادح وقادح لهذا العمل أو لغيره من أعمال الكاتب، ووجدت في هذا الاختلاف والتقاطع أمرًا طبيعيًا يرتكز على الذائقة الفردية لا على أسس علم السرد.
بُني نصّ “صباح ومساء” على مقطعين، الأول تمهيدي، وهو لا يتعدى أكثر من عشرين صفحة، بينما احتلّ المقطع الثاني من النصّ المساحة المتبقّية من صفحات الرواية، فقد جسّد المقطع الثاني الجسد السردي للحكاية المركزية، وهو مقطع عرضي من حكاية حياة الجدّ يوهانس، بينما شكّل المقطع الأول مشهدًا استدراجيًا يهدف للاستحواذ على المتلقّي في صفحاته القليلة والحرف الكبير الذي طبع فيه النصّ، إذ أريد لهذا الحرف تجاريًا أن يمدّ في جسد الرواية ورقيًا لأغراض رفع سعر الكتاب لو ظهر في ستين صفحة على أقلّ تقدير، هذا الأمر لا علاقة له بمنتِج النصّ فوسه، أو من قام بالترجمة عن النرويجية شيرين عبدالوهاب وأمل رواش، إذ إنّه قضية تسويقية تعود إلى الناشر.
بعيدًا عمّا تقدّم، لندخل إلى جوهر النصّ، وكيف تمّ عرض المشهد السردي في الإجابة عن السؤال الروائي “معنى الحياة”، هذا السؤال الكوني والشمولي الذي لا يخصّ يوهانس الجدّ أو الحفيد، وإنّما يشمل البشرية قاطبة في التفكير بمعنى وجودها في ظلّ “هذا العالم القبيح”. “الرواية ص11”، حيث يناقش الأب في شريط التداعيات لحظة ولادة يوهانس الابن الأفكارَ التي ورثها عن أبيه يوهانس وتأثيرات البيئة “الصيد والبحر”، والمحيط الاجتماعي الخاصّ بالعائلة، شكّلت لحظة ولادة الطفل يوهانس لحظة مراجعة للذات الإنسانية بأفق الواقع المعيش، وصولًا إلى الواقع المتخيل عن الحياة المقبلة له “ففي معظم الأحيان يحكم العالم إله أدنى أو حتى الشر نفسه، ولكن ليس على الدوام، لأنَّ الله الرؤوف يطلّ هنا أيضًا، هكذا تسير الأمور”. “الرواية ص10”.
لحظة مقابل لحظة
لحظتان حملهما هذا النصّ السردي، لحظة الولادة ليوهانس الحفيد، ولحظة الرحيل ليوهانس الجدّ، لكن لا يمكن اختزال هذا النصّ القصير في كلمتين، ولادة ورحيل، “حياة وموت”، فهاتان المفردتان تشترك فيهما الكثير من الأعمال الإبداعية، ولكلّ كاتب من الكُتّاب رؤيته وتصوّره ومشهديته لبعث الحياة السردية في هاتين المفردتين، لكن ما يميّز هذا النصّ بالذات هو أنّه اعتمد على سارد خارجي يسعى لتكثيف اللحظة السردية زمنيًا بحدود أفكاره وتصوراته ومسموعاته عن مشهد الولادة الذي يتشكّل في الغرفة المعزولة عن الأب الذي تشكّل تصوراته المشهد السردي العام، وهي تصوّرات حيّة، وتحمل تناقضها ورغباتها وتمنياته مع ارتفاع وانخفاض صرخات الأم أثناء لحظات الطلق، فترتفع مع الصراخ العالي، وينخفض منسوب تمنياته مع خفوت الصوت، فقد كان الصوت القادم من الغرفة الثانية هو المحفّز السردي لأفكار الزوج، وهو الذي يشعل تداعياته إيجابيًا، ويشعره بالنشوة، أو يشعره باليأس والإحباط وتمنياته بسلامة زوجته، فقد كانت الأصوات أكثر فعالية في التحفيز من حركة القابلة المأذونة التي تتحرّك ما بين الغرفة والمطبخ لجلب الماء الساخن، فإنّ حركتها لم تكن إلّا صورة انطباعية لتطعيم المشهد السردي الذي يرتسم في ذاكرة الزوج الذي يشهد في اللحظة ذاتها تكرار مفرداته أو صوره، حيث يشكّل المشهد التخيّلي الصورة الواقعية المفترضة للواقع الجديد الذي ستعيشه العائلة بعد مجيء الوليد الجديد.
وإذا كان المشهد الاستدراجي هذا يتبأر في لحظة الولادة، فإنّ المشهد الثاني الذي جسّد مقطعًا عرضيًا لحياة الجدّ الصيّاد يوهانس، يتبأر في لحظة الرحيل، هاتان اللحظتان (الولادة والرحيل) كلٌّ منهما حدث في وقت مختلف من النهار، الصباح والمساء، ولكلٍّ منهما دلالته في الحياة والموت، فقد قدّم فيه الكاتب نصًّا إيهاميًا ممتعًا في تفاصيله التي قد يوهم الكاتب في واقعيتها، إلّا أنّها سرعان ما تنكشف غرائبيتها من خلال التفاصيل التي تؤكّد غرابة الأحداث، على الرغم من أنَّ السارد يقدّم حقائق بين حركة العجوز يوهانس وجاره الصياد بيتر الذي توفي منذ زمن، لكنّه في هذا المساء، وهو راقد في سريره يذهب معه في رحلة صيد في البحر يسترجع فيها شريط حياته قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويبقى في رقدته التي يرحل منها إلى اللا مكان.
هذه الرحلة مع صديقه بيتر، هي في حدّ ذاتها إجابة عن السؤال الروائي الذي أُطلق من غلاف الرواية وصفحاتها الداخلية في اكتشاف معنى الحياة في عالم قبيح، حيث تجاوز يوهانس قبح العالم في حبّه للحياة وسعادته في محيط العائلة، وعروقه التي امتدت جذورها إلى الأولاد والأحفاد، لذلك هو معنى الحياة التي يحارب بها الإنسان القبح في الجمال، الجمال الذي تعيشه كسلوك يومي في تعاملك وحبّك للآخرين.