الروس وتكتيك {الدفاع المرن}

قضايا عربية ودولية 2023/10/11
...

 ماثيو مبوك بيغ

 ترجمة: الصباح 


عبر حقولٍ مهجورةٍ وقرى مهدمةٍ يواجه الهجوم الأوكراني المضاد حقول ألغام روسيَّة وجنوداً رابضين داخل شبكات معقدة من الخنادق. بيد أنَّ العقبة الكأداء التي تتحدى الجنود الأوكرانيين هو ذلك التكتيك الذي تعتمده القوات الروسية، وهو التخلي عن الأرض ثم العودة إليها بضربة قوية مرتدة.

فبدلاً من التمسك بخط من الخنادق والدفاع عنه بأي ثمن في مواجهة الهجوم الأوكراني يطبق القادة الروس، كما يقول الخبراء الأمنيون، تكتيكاً عسكرياً قديماً يعرف باسم “الدفاع المرن”.

في تنفيذ هذا التكتيك تنسحب القوات الروسية إلى خط خلفي من المواضع الدفاعية مشجعة القوات الأوكرانية بذلك على التقدم، ثم ترد الضربة عندما تكون القوات المعادية في وضع انكشاف، إما أثناء تحركها عبر الأرض المفتوحة أو عند بلوغها المواضع التي أخلاها الروس مؤخراً.

الهدف من ذلك هو منع القوات الأوكرانية من تأمين الموضع فعلياً ثم استخدامه كقاعدة اندفاع لتقدم أبعد. كان هذا هو ما تمكنت أوكرانيا من تحقيقه بنجاح في قرية “روبوتاين” في الجنوب وكان أكبر اختراق لها على مدى الأسابيع الأخيرة.

يقول “بن باري”، الزميل الأقدم في دراسات الحرب البرية من “المعهد الدولي للدراسات الستراتيجية”: “يتعمد المدافع التخلي عن الأرض ولكنه في الوقت نفسه ينزل بالمهاجمين أقسى ما يمكنه من الإصابات واضعاً نصب عينيه جر المهاجمين إلى وضع يجعلهم مكشوفين أمام هجومه المضاد العازم.”

كان هذا التكتيك، وفقاً للمسؤولين الأوكرانيين والخبراء العسكريين، أحد العوامل التي حالت دون تحقيق تقدم أسرع. ويشير هؤلاء أيضاً إلى استخدام موسكو حقول الألغام الكثيفة وشبكات الخنادق ومصدات الدبابات، بالإضافة إلى إحجام داعمي أوكرانيا في حلف الناتو عن تزويدها بطائرات مقاتلة متقدمة وأسلحة أبعد مدى في وقت مبكر من الحرب.

لعل المشكلة الأعصى بالنسبة لأوكرانيا هي مخزونات روسيا الضخمة من المدفعية التي تواصل نشرها طيلة أمد الصراع، ودورها في صد الهجوم المضاد الذي ابتدأ في شهر حزيران. 

“الدفاع المرن” ليس ستراتيجية جديدة، حيث استخدمه الاتحاد السوفييتي لهزيمة ألمانيا عام 1943 في معركة كورسك، وهي إحدى أكبر المعارك على الجبهة الشرقية خلال الحرب العالمية الثانية، ويبدو أنَّ روسيا أخذت تطبقه منذ بعض الوقت في أوكرانيا أيضاً. 

يقول باري: “من الناحية التاريخية كان هذا التكتيك ناجحاً للغاية، ولكن نجاحه يتطلب قيادة جيدة وقوات حسنة التدريب والإتقان في توجيه ضربات مضادة قاصمة.”

يصعب الجزم، كما يقول الخبراء، إن كان هذا التكتيك يطبق على أساس يومي من دون التواصل المباشر بالقادة الروس، ولكن معهد دراسات الحرب، وهو منظمة مقرها واشنطن، يورد أدلة على هذا خلال الأيام الأخيرة حول قرية “روبوتاين” التي سقطت بيد القوات الأوكرانية في أواخر الشهر الماضي.

قال المعهد في تقريره إنَّ الجانبين قد تبادلا السيطرة على بعض التحصينات الميدانية المهمة لعدة مرات، مضيفاً أنَّ القوات الروسية كانت تشن هجمات تكتيكية مضادة ناجحة على نطاق محدود.

الادعاءات المتضاربة في الأسبوع الماضي انطوت على شيء من الإيضاح، فقد قالت القوات الروسية إنها شنت هجوماً على القوات الأوكرانية عند خط المواجهة في منطقة “زابوريجيا” الجنوبية، حيث تركز كييف الاندفاعة الرئيسة في هجومها المضاد، بينما ادعت القوات الأوكرانية أنها صدت الهجمات الروسية وردتها على أعقابها.

وفي تقرير نشر مؤخراً أفاد معهد دراسات الحرب بأنَّ لقطات التحديد الجغرافي للمواقع وصور الأقمار الاصطناعية تظهر كما يبدو أنَّ أوكرانيا قد استعادت السيطرة على نظام الخنادق إلى الجنوب الغربي من “روبوتاين”، الذي سبق لها أن فقدته وسيطرت عليه القوات الروسية. وقد برز شاهد آخر يوم الثلاثاء على طبيعة الكر والفر التي اتسم بها القتال عندما صرح الجنرال “أولكساندر تارنافسكي” قائد القوات الأوكرانية في المنطقة الجنوبية بأنَّ قواته قد حققت تقدماً. ولم يمكن التحقق من ذلك التقرير.

خلال الأشهر الأخيرة تحولت الحرب الأوكرانية إلى سلسلة من المعارك للسيطرة على قرى صغيرة وأنظمة خنادق منفردة، وتلك مناوشات يمكن أن تستمر لأسابيع يتكبد فيها الجانبان إصابات فادحة لتأمين السيطرة. بيد أنَّ الصراع عموماً يحتدم على خط جبهة امتداده عدة مئات من الأميال، ما بين مدينة “كوبيانسك” الصغيرة في منطقة “خاركيف” عند الشمال الشرقي حيث تحاول القوات الروسية تحقيق تقدم، ومنطقة “زابوريجيا” في الجنوب. كذلك نجحت القوات الأوكرانية في شق طريقها جنوب منطقة “دونتسك” الشرقية حيث تحتدم المعارك للسيطرة على “باخموت”، وهي من أشد معارك الحرب ضراوة ولم تتوقف منذ سيطرة موسكو على المدينة في شهر أيار. 

يوم الثلاثاء الماضي زار الرئيس الأوكراني “فلودومير زيلنسكي” قواته بالقرب من “كوبيانسك” لمنح الأوسمة والنياشين وتفقد التجهيزات العسكرية التي من بينها دبابات “ليوبارد” تبرع بها الحلفاء الأوروبيون في الناتو. وعلى حسابه في موقع تلغرام نشر زيلنسكي مقطع فيديو يظهره وهو في غابة يصافح جماعة من الجنود بينهم رجال بدوا كباراً في السن، وفي هذا إيحاء بالثمن الذي تتكبده أوكرانيا جراء الحرب.

يعتقد الخبراء العسكريون أنَّ روسيا قد منيت هي الأخرى بخسائر كبيرة طوال فترة الهجوم الأوكراني المضاد، برغم نجاحها في كسر حدة اندفاع القوات الأوكرانية وإبطائها حد الزحف. جانب من هذا النجاح تحقق عبر دفاعها المرن.

أحد العوامل الرئيسة في نجاح هذا التكتيك هو الاستخدام الحكيم للاحتياطيات العسكرية، التي يمكن الزج بها في معركة الهجوم المضاد، كما يقول القائد الأوكراني السابق “أولكسي ميلنيك” والذي يشغل حالياً مركزاً مرموقاً في “مركز رازومكوف” في العاصمة كييف.

يضيف ميلنيك أنَّ موسكو قد باشرت مؤخراً كما يبدو نشر وحدات النخبة المحمولة جواً للدفاع عن منطقة “زابوريجيا”، وفي ذلك إشارة إلى أنَّ إمداداتها من الاحتياطي النظامي ربما بدأت تتضاءل. 

أما “مايكل كوفمان”، وهو زميل أقدم في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، فيقول إننا متى ما رأينا قوات موسكو تبدي تقهقراً يزيد على بضع مئات من الأمتار في كل مرة، وأنَّ القوات الأوكرانية بالمقابل، لاسيما الوحدات الآلية، تتمكن من استجماع تعزيزات كافية للتقدم بأعداد كبيرة، فستكون تلك دلالة على أنَّ ستراتيجية الدفاع الروسية قد أخذت تتعثر.


عن صحيفة “نيويورك تايمز”