علي المرهج
لا أتحدث هنا عن تجليات فكر ما بعد الحداثة الذي أكد «تشظي الهويَّة»، ولكنني أتحدث عن مفهومها الذي ساد في المنطق، بأن «الشيء هو هو، ولا يمكن أن يكون غيره» أو ما يسمى مفهوم الذاتيَّة، وهذا يصح من وجهة نظر تجريديَّة، ولكن حين نحتكم لواقع تشكل الهويَّة وفق منظور نفسي سايكولوجي أو منظور اجتماعي وأنثربولوجي، سنكتشف أن تمظهرات الهويَّة الذاتيَّة متعددة
فهي قد تكون هويَّة ذاتيَّة عند أيديولوجي «دوغمائي» يسجن عقله داخل أطر نفسية وسوسيولوجيسة أو فكرية ما، تمارس سطوتها عليه، وهي من تمنحه قدرة التصور لذات محكومة بموروثها الاجتماعي، أو ما أسماه (علي الوردي) «القوقعة الاجتماعيَّة» التي تحكم عقل جل أفراد المجتمع الذين ورثوا قيمهم، فظنوا أنها هي «المسطرة» التي يمكن لهم من خلالالها قياس ما هو حق وما هو باطل، وقل إنها «نظّارة» للوجود لبسها المولود في مجتمع ما، فتصور أن كل ما يراه عبر هذه «النظارة» إنما هو مقياس لحقيقة ما يوجد وما لا يوجد، وحقيقة ما له معنى وما ليس له معنى. هناك حديث: «يولد الإنسان فأبواه يُهودانه أو يُنصرانه» وفي رواية أخرى يُضاف لها «يمجسانه» أي أنه يرث العقيدة من أبويه، ويعتقد بصحتها، ويرى أن كل ما يُعارضها باطل يتضاد مع الحق!. تحدث الفيلسوف «سمارندكه» عن مفهوم «الهويَّة» وبيَن لنا أن تمظهرات الهويَّة متعددة، فيمكن أن تكون لنا هويَّة ذاتيَّة في تصورنا العقائدي أو الديني، وقد يكون هناك تصور آخر لهويتنا الوطنية، وتصور لعلاقتنا مع الآخرين، فالهويَّة الذاتيَّة تصور لماهية وجودنا في العالم الذي نعيش فيه، وقد تتشكل بحكم تحولات الأحداث السياسيَّة والاجتماعيَّة، بل والسايكولوجيَّة.
لكل فرد منا تصوران عن هويته الذاتيَّة، تصور مُعلن وآخر مسكوت عنه، وهنا يبدو أن لكل منا تاريخين للرواية والسرد عن «الهويَّة الذاتيَّة»، الأول: هو التاريخ المعروف عنك، والآخر هو التاريخ الموازي الذي لا يعرفه سواك.
قد يكشف بعض الأدباء من الشعراء والرواة ممن له جرأة القول عن «التاريخ الموازي» ويكشف لنا عن «هويَّة ذاتيَّة» أخرى لا نعرفها كما فعل (محمد شكري) في «الخبز الحافي»، وهذا لا يحدث في مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلا نادرًا. لأعود لمفهوم «تشظي الهويَّة» الذي ذكرت أنه غير مرتبط بتصورات فلاسفة «ما بعد الحداثة» عنه» لأشير لما هو حاضر عندنا وفينا نحن العراقيين، فمنا من يرى أن «هويته الوطنية» لها امتداد في التاريخ الحضاري، يمتد لأكثر من خمسة آلاف سنة مضت، منذ عهد السومريين وصولًا للآشوريين، ولكن هناك من لا يجد في حضارات العراق امتدادا تاريخيا يُبرر قبول فكرة وجود «أمة عراقية» لها تشكل واضح في تصورنا لمفهوم «الهويَّة»، وهناك من المؤرخين والآثاريين يعتفدون بالقطيعة الهوياتية بين حضارات العراق القديم، فليست هويَّة السومريين هي ذاتها هويَّة الأكديين وكذا الحال مع الآشوريين، هي حضارات وجدت في أرض سُميت في ما بعد بأنها «العراق» أو «بلاد الرافدين» أو حضارة «ميزوبوتيميا»، ولكن من الصعب تصور وجود تشاكل وتماثل في الهويَّة بينها.
في المقابل هناك تصور أن العراق حاضرة العالم الإسلامي، وبغداد عاصمة التقدم الحضاري، ولا أدل على ذلك من مخاطبة «هارون الرشيد» للغمامة، وهو الذي ساهم بتشكيل عاصمة التقدم الحضاري الإسلامي بقوله:»أينما تمطري فإن خراجك يعود إلي»، وهذا دليل على سطوة بغداد على العالم، ولكن بالعودة لعنوان المقال «تشظي الهويَّة» نجد أن أكثريَّة المفكرين الإسلاميين يؤكدون أن هويَّة العراق هويَّة إسلامية، ويتغافلون عن هويَّة العراق الحضارية (بلاد ما بين النهرين). يختلف مفكرو السنة مع مفكري الشيعة في انتخاب الأنموذج الأمثل في تصور الهويَّة الإسلامية للعراق، فأنموذج سنة العراق يتضاد مع أنموذج شيعة العراق، والعكس صحيح، ولكنهما متفقان في أن هويَّة العراق «هويَّة إسلامية»، و»تشظي الهويَّة» واضح سواء في خلافاتنا الأثنية أو العقائدية أو الدينية، وقبل ذلك في انتمائنا لبلاد الرافدين من عدمه، ويستمر التشظي في تصورنا للهويَّة الوطنيَّة في عدم اتفاقنا على العيد الوطني للعراق، فهناك يساريون يجدون أن هويَّة العراق تتجلى في خلاصنا من الحكم الملكي، ومن يتضاد معهم يجد أن نشأة الدولة العراقيَّة والعمل الوعي بقيمة الهويَّة الذاتيَّة والوطنية يتجلى في ثورة العشرين، وغيرهم يرى أنها تتضح في تسنم الملك فيصل عرش العراق، والقوميون والبعثيون يرون أن هويَّة العراق الوطنية تتجلى في الحفاظ على بعدها العروبي وإندماجها بالهويَّة القومية.
سيبقى «تشظي الهويَّة» مستمرًا إلى يومنا هذا في حال وعدم قدرتنا على بناء تصور واضح لمفهوم «الهويَّة العراقيَّة».