التّعالُق المجازي بين الذات والموضوع

ثقافة 2023/10/12
...

 عبد علي حسن

منذ زمن ليس بالقصير ربما يمتد إلى أزمان تضرب في عمق التاريخ البشري، والإنسان يحاول أن يجعل العلاقة بينه وبين الموجودات الأخرى التي تشاركه الحياة من نبات وحيوان وجماد وأخرى معنوية وحتى رموزه الدينيّة التي اتخذت توصيف الآلهة في الأحقاب الوثنية والأسطورية حاول أن يجعل تلك العلاقة أنموذجية ترتقي إلى مستوى محو الحدود لتغدو ذاته هي ذات تلك الموجودات، يجري كل ذلك عبر تحريك المشترك بينها وبين ذاته وفق علائق مجازية تكسبها حياة تقترن بحياة الإنسان، فكانت الأنسنة التي امتدت صلاتها وآفاقها الفكرية والعلمية إلى شتى مناشط الإنسان، ومنها الأدب شعراً ونثراً.
والأنسنة تعني وفق المفاهيم الشائعة لغة واصطلاحاً، البحث عن صفات الإنسان في الكائن المغاير له فيزيولوجيا، سواء كان ملموساً كالحيوان والنبات والجماد أو غيبيّاً كالمفاهيم والأشياء المجردة، ومن ثمَّ هي كل من يخلع عليه صفة بشريّة، أو يمثله في صورة بشريّة، بما في ذلك إسناد الفعل البشري له، عبر تقنية المجاز التي عرفت بها لغة العرب، ويمكن تقصي ذلك في آداب وادي الرافدين وشعر ما قبل الاسلام وفي القرآن الكريم وقصص الحيوان التي شكّلت الموروث السردي والشعري العربي.
إنَّ هذه الصلة بين الإنسان وسائر الموجودات تشكّلُ تعالقاً مجازياً بين الذات الإنسانيّة والموضوع الذي يتشكّلُ من المحيط الحافّ بالإنسان وفعله وتفكيره، وهنا تتجلّى رغبة الإنسان في أن تشاركه الأشياء في تكوين منظوماته الجماليّة والفكريّة وموقفه منها، ومن خلال هذا التعالق المجازي الذي يقدم فيه النص الشعري نفسه على أنّه نص شمولي يخرج من منطقة اللحظة الشعرية المقترنة بزمان ومكان معينين إلى فضاء لا زمكاني أوسع ليصل إلى التعبير عن مكنونات الذات الشعريّة مستعيراً المفاهيم القارّة للأشياء الحافّة به فيؤنسنها لتتوحد تلك المفاهيم التي يقوم النص بتحريكها عبر التقويل والتفعيل للصفات الإنسانية واسباغها على تلك الأشياء، وسيتبدى ذلك في تحليلنا لبعض من نصوص الكتاب الشعري (أغاني الصموت) اصدار دار الصواف للطباعة والنشر/ 2018 للشاعر ولاء الصوّاف الذي سبق وأن أصدر ديوانه الأول (كاميكاز) 2000، و(كفن شهريار) 2007 و(كلب ينبح فوق الغيم) 2022، إذ تضمن كتابه الشعري موضوع البحث موضوعة الأنسنة في العديد من نصوص المجموعة التي اخترنا منها ثلاثة نصوص لتكون عينة لمعالجته موضوعة العلاقة بين ذاته الشاعرة وما يحيط به من نبات أو حيوان أو جماد أو مفاهيم مجردة لتدخل في تعالق أسهمت تقنية المجاز البلاغي في تخليق وحدة وجوديّة بين الذاتي والموضوعي تجلّت فيها البنية الشعرية على نحو مؤثر وجمالي فضلاً عن تحقيقها الابعاد الفكرية التي تنفرد بها الذات الشاعرة عبر توسّلها بالموجودات الموضوعية لتتحدث وتفعل في فضاء شعري يتجاوز المحسوس والملموس إلى ما هو أبعد من الحقائق الفيزيقية المنظورة وصولاً إلى وضع المتلقي في دائرة تأويلية تنتج فيها نصوص المتلقي.
ففي نص (أرجوحتي) نقرأ ما يلي: (منذُ خمسينَ قطافاً أو يزيد/ أهزّها مرةً/ وصوتُ الحربِ يهزّها ثانية/ تأخُذني للغيم/ وتُعيدُني  إلى الأرضِ الحرام.. النص ص 7).
في النص السالف تشكّلُ الأرجوحة بنية مركزية ذات دلالة تشير  إلى قوّة إرادتها مقابل الإرادة المسلوبة للذات الشاعرة، ولتأكيد هذه السلطة والإرادة فإنّ النص يسندُ إلى الأرجوحة فعل (الأخذ) و(الإعادة)، وهذان الفعلان يشيران إلى حركة الصعود والنزول المعهودة في الأرجوحة، إلّا أنّ الذات الشاعرة تسند فعلاً واعياً ينسجم وتجربة الحرب التي تخوضها الذات، فتبدو عملية الأخذ فعلاً مقصوداً وكذلك عملية الإعادة، وكأنَّ الأرجوحة بهذين الفعلين إنسان ما أو شخص يمارس التلاعب بإرادة الذات المسلوبة التي لا تملك إلّا الإذعان لهذا التلاعب الذي يغريه بالنجاة تارة حين يأخذه للغيم بعيداً عن فواعل التهديد الوجودي ويعيده تارة أخرى في أتون الحرب وفي الأرض الحرام تحديداً وهي منطقة قلّما ينجو أحدٌ فيها، فقد أسند النص هذين الفعلين الانسانيين إلى الجماد وهو الأرجوحة، كما أنّ النص يسند فعل الهزّ إلى موجود معنوي وهو (صوت الحرب) الذي يهزّ الأرجوحة ثانيةً بالتناوب مع الذات الشاعرة، وفي كلا الاسنادين يظهر المجاز كفعل بلاغي اتحدت فيه الذات مع الموجودات الموضوعية لتعميق الأسى في ما تعانيه الذات وهي تخوضُ حرباً أياً كان نوعها، وهنا يكتسب النص شموليته وخروجه عن دائرة الزمكان، إذ إن أنسنة الأرجوحة وصوت الحرب قد أسهمت في تحقيق علاقة وجوديّة أسفرت عن الإحاطة بتجربة المعاناة من المواجهة والتحدي غير المتكافئ بين الذات والآخر.
 وفي نص (هل تكتم السر؟) ص23 تؤثثُ الموجودات الحيوانيّة والنباتيّة المؤنسنة الفضاء الشعري للنص، إذ تتركُ الذات الشاعرة سائر الموجودات النصيّة تمارس فعلها المؤنسن في تحريك فواعل البنى الشعريّة التي كوّنتها داخل دائرة المعنى الذي أراد النص تثبيته، فمنذ السطر الأول للنص يُسندُ فعل القول للطير الذي ينقلُ القول للغيم الذي بدوره ينقله للذات الشاعرة التي بدورها تحفظ القول وتكتمه ولم تقله حتى لنبي مفترض يتنقل في أرض السواد من دون أن نعرف كنه ذلك القول الذي احتكم لموجهات عنوان النص وبأنّ هنالك سرّاً ينبغي كتمانه: (ما قاله الطير للغيم.. ما قاله الغيم لي/ ومالك اقله لنبيٍّ بضفيرة حمراء يجوب السواد..).
وهكذا يبدأ النص بترسيم علاقات مجازية بين الموجودات الطير/ الغيم، لتخلق بنية السرّ الذي تواتر بين الطير - الغيم - الذات الشاعرة، ويستمرُّ النصّ في أنسنة موجودات أخرى ذات صلة بالفضاء الذي تأسّس في السطور الاولى، فيلجأ النص إلى رسم مشهد روحاني يستمد عناصره من المخيال الديني: (هنا/ رائحةُ البخورِ تمزّقُ وحدةَ الريح/ تعلو النذورُ.. ويهبطُ اليمام).
فيسند النص فعل التمزيق لرائحة البخور التي تبدد وتفرّقُ الريح بفعل العلو لتصل إلى اليمام الذي يشعر بالأمان فيهبط إلى الأرض بسلام، وتستمر الذات الشاعرة في إشراك عدد آخر من الموجودات الموضوعيّة ليدخل في علائق مجازيّة عبر أنسنتها، ففي السطور المقبلة يسند النص النخلة وهو واحد من الرموز الراكزة في الذاكرة الجمعيّة والدينيّة لما تشكّله من مصدر غذائي أساسي في بلاد وادي الرافدين فيسند إليها فعل لبس لامة الحرب لتسهم في الحرب الدائرة ضد قوى غير منظورة على مستوى سرديّة النص: (ونخلتُنا البتول/ تبدو من بعيد كطفلة تلبس لامة الحرب/ وتمسكُ بيدها عشبة الخلود/ أو كزهرةٍ في زيّ محارب/ انتهى عصرُ فتوّتِها ليمارسَ عليها الموت طقوس التّجلي).
كما وتشركُ الذات الشاعرة موجوداً نباتياً آخر وهو (الزهرة) ليسندَ لها لبس زي الحرب، إلّا أنها لا تقوى على فعل الحرب لشيخوختها لتتعالق مع الموت في طقس صوفي، ويدخل النص في علاقة تناصيّة مع القرآن الكريم وتحديدا مع الآية 261 من سورة البقرة (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مئة حبة..) فالزهرة قضت نحبها وهي تدافع عن فعل الخير الذي كان يقوم به «أبو» الذات الشاعرة: (قضت وهي تذود/ عن شرف سبع سنبلات خضر/ هنَّ كلُّ ما رآه أبي).
ففي النص السالف (هل تكتم السر؟) تعالقات الذات الشاعرة مع ثلاثة أنواع من الموجودات تعالقاً مجازياً، إذ أسند الأفعال والأقوال الإنسانية إلى الحيوان والنبات والغيم، لتسهم كلّ هذه الموجودات الموضوعيّة عبر الأنسنة في الحرب ضد قوى شريرة لم يشأ النص الإخبار عنها تحديداً ليمارس النص فعله وتأثيره الشمولي.
وفي النص الثالث (متّهمٌ بالهديل) ص46 تتعالق الذات مع الموجودات تعالقاً يمنح تلك الموجودات طاقة شعريّة تسفر عن تخليق المعاني المتجاوزة للحس المنظور صوب بنائية شعرية تفصح عن المضمر حين تكتسب تلك الموجودات الصفات الإنسانيّة قولاً أو فعلاً وحتى مشاعر، وبدءاً من العنوان (متّهم بالهديل) الذي يشير إلى تعالق معكوس بين الذات والحمام عبر إسناد فعل الهديل إلى الذات الانسانية، واكتساب صفة الحمام الصوتية (الهديل) ليبوح ما شاء له البوح للتعبير عن حالة الأسى التي انتظمت كل مساحة النص، ويمكن حصر الموجودات المؤنسنة التي أسند إليها النص أفعالاً ومشاعر إنسانية وتعالقات مجازياً مع الذات الشاعرة في الآتي: كالأزقة/ العباءات/ الماء/ الكف/ الحروب، إذ أسهمت أنسنة الموجودات الآنفة الذكر في تفعيل علاقة الذات مع الموضوع تفاعلاً مكّنَ النص من تخليق بُنى متعددة شكّلت بمجموعها رؤية النص لما يجري في باطن الواقع/ المضمر، فإسناد (الدفء) لتشعر به الأزقة إشارة إلى براءة وأصالة الأزقة التي استشعرتها الذات الشاعرة كأساس ومرجع لبناء الشخصية منذ الطفولة، كما أن إسناد مشاعر الإحساس بالخجل من الفقر للعباءات السود واكتسابها اللون الأحمر لأنها أصبحت باليةً وقديمة، وكذلك إسناد فعل المرور ونثر القتلى على عتبات البيوت للحروب ووفق سياقات مجازية قد اكسبت تلك الصور الشعرية قيمة بلاغية مؤثرة وتعالقت مع الذات الشاعرة لتحقيق طبيعة الصلة القائمة بين الإنسان وهذه الموجودات المؤثرة في تفاصيل حياته: (لذكرى الأزقة الدافئة/ للعباءات السود المحمرة خجلاً/ للحروب التي مرت من هنا/ ونثرا قتلاها على عتبات البيوت..).
 كما أن إسناد فعل الاستيقاظ للماء إشارة إلى بنية الجدب واليباس الحياتي، وتأخر استيقاظه وظهور التحول بسبب من أن الكف التي تنز بالماء لا تزال نائمة في كربلاء في إشارة إلى معاناة الإمام الحسين عليه السلام وآل بيته من شدة العطش: (متى يستيقظ الماء؟/ ربما بعد حين/ لأنَّ الكفّ التي تنزُّ عطشاً/ للآن تنام في كربلاء).
لقد تمكن النصّ عبر أنسنة الموجودات الموضوعيّة التي أشرنا إليها من تحقيق شمولية الوضع الإنساني المزري والمتعطش دوما إلى حياة أُخرى بديلاً لهذا الجدب والتصحّر الحياتي. إذ إن الموجودات التي اختارتها الذات الشاعرة وعبر أنسنتها هي موجودات ذات صلة وثيقة بالذات التي تحولت إلى توق إنساني شامل للنضال ضد عوامل القهر لإقامة حياة إيجابيّة وإنسانيّة.
من خلال ما تقدم من بحث في العلاقة بين الذات الشاعرة والموجودات الموضوعية عبر خاصيّة الأنسنة في ديوان (اغاني الصموت) للصواف، إذ لم يتوقف البحث عند تأشير مواطن الأنسنة في النصوص وانما تجاوز ذلك إلى جوهر السؤال النقدي وهو الكيفية التي تم فيها ذلك التعالق وأثر المجاز في هذه العلاقة وهو ما اكسب النصوص شعريتها؟ وكذلك نوعية الموجودات ومناسبتها لتحقيق المجاز في تلك العلاقة، إذ تمكنت النصوص من الوصول إلى تخليق الفضاء الشعري الذي تحركت فيه تلك الموجودات من نبات أو حيوان أو جماد أو أشياء معنوية تجاوزت الحس والمنظور واكتسابها الفعل والقول الإنساني عبر آليّة المجاز لتسهم وعبر العلاقة مع الذات الشاعرة في تحقيق رسالة النصوص أولاً ولإلفات النظر إلى أهمية هذه الموجودات المجاورة لوجود الإنسان على هذه البسيطة.