{أنا ماكبث} حضور الكلاسيكيَّة وغياب أسئلة المعاصرة

ثقافة 2023/10/12
...

  رضا المحمداوي

في مسرحية (أنا ماكبث) لمؤلفها منير راضي ومخرجها طلال هادي نعود من جديد إلى الأجواء الشكسبيرية وشخصياتها التراجيدية المعروفة التي ترسخت في تأريخ المسرح العالمي وأذهان محبي هذا الفن، وفي الدرس الأكاديمي المنهجي، ولطالما شَهدَ المسرح العراقي مثل هذه التجارب والمقاربات والقراءات الجديدة لمسرحيات شكسبير والتي حاول أصحابها الاشتباك المعاصر مع أفكار تلك المسرحيات وسعوا إلى تقديم معالجات عصريَّة لتك العوالم الدراميّة الكلاسيكيّة، وقد تفاوتت تلك المحاولات والتجارب في درجة نجاحها في تقديم  المعادلة الفنية المتوازنة المطلوبة من العرض المسرحي الراهن.
ولا تخرج مسرحية (أنا ماكبث)عن هذه المحاولات في تقديم قراءة مغايرة لمسرحية (ماكبث) تحديداً، وذلك بدلالة المسرحية الجديدة التي كتبها منير راضي بعد أن اختمرتْ في ذهنه فكرة إيجاد نسخة عربية من شكسبير) على حد وصفهِ الذي جاء في مقدمة كتابهِ المسرحي (أنا ماكبث) الصادرعن دار الورشة عام 2021 والذي تضمّنَ خمس مسرحيات ذوات الفصل الواحد، وأوّلها المسرحية التي تحمل العنوان ذاته. ولا شكَّ أن (منير) بطموحهِ هذا يخوض غمار تحدٍّ مسرحي كبير. الفرضيّة الدراميّة الأساسيّة التي ترتكز عليها مسرحية (أنا ماكبث) هي محاولة رفع الحيف والغبن والحيف الذي لَحِقَ بالملك (ماكبث) وطال تاريخه ومجده الشخصي وكذلك رفع اللعنة عنه وقد غَدَرَ التاريخ به. إذن فالهدف الأول من المسرحية هو هدف دراماتيكي ويتمثّل بتهيئة البيئة المسرحية بطابعها الدرامي المتصارع من أجل الوقوف على حقيقة جريمة قتل الملك (دانكان) من قبل (ماكبث) ووضعها أمام حكم الجمهور في حين يسعى (ماكبث) من أجل الخلاص من جريمة القتل تلك ومن إتهامه بالاستيلاء على العرش، وهناك أيضاً دعوة لبراءة (الليدي ماكبث) من تلك الجريمة ومحاولة تبييض
صفحتها.

العرض المسرحي
وأزاء هذا التباين والاختلاف في وجهات النظر الدراميّة يقيم المؤلف محكمة في العالم السفلي للأموات ويُجسَّدها المخرج في عرضه المسرحي ليحضرها كل من (ماكبث) الممثل زمن علي، و(دانكان) (الممثل: أحمد محمد صالح، و(الملك لير) الممثل: طلال هادي، وحتىشخصية (شكسبير) الممثل: حميد عباس، نفسها يتم استحضارها في المحكمة من أجل الوقوف على حقيقة الأمور ومجرياتها، وحسناً فعل المخرج طلال هادي بحذف أو إلغاء شخصيات (هاملت) و (عطيل) و (رافائيل) من العرض المسرحي واقتصاره في معالجته الإخراجيّة على الخط الدرامي لحكاية (ماكبث) وحدها، وأبقى شخصية (الليدي ماكبث) للممثلة إيمان عبد الحسن، مثل روح هائمة تحوم حول أحداث العرض المسرحي ولكن من دون حضور درامي فاعل وبدتْ وكأنها تتحرك على هامش المتن الدرامي من دونَ أن تدخل فيه.
وقد حَرَصَ المخرج على تقديم عرض فني رشيق. ولذا ظهر واضحاً ذلك الميل للتخفيف من رصانة النص الأصلي وَجَنَحَ به إلى بعض الفكاهة وَكَسَر جديتَهُ وبنيتَهُ الأدبيّة والحواريّة الثقيلة من خلال توظيفه لحضور الساحرات الثلاث (فيروز طلال وتبارك طلال وداليا طلال) وكذلك الحال في رسم وتجسيد شخصية (الملك لير) التي أدّاها طلال هادي، حيث نَزَعَ عنها رداء الملوكية وغادر صرامتها وهيبتها وَمالَ بها إلى  تهكميّة واضحة في حين بقي الأداء الرصين والإيقاع الفني المنضبط لدى كل من زمن علي، وحميد عباس، وأحمد محمد
صالح.
أسئلة اعتراضية
- ولكن السؤال: هل يعلن هذا المخاض الدرامي الصعب بخطوطه المتشابكة عن ولادة (ماكبث) جديد ومعاصر؟
- وماذا تريد المسرحية الجديدة من هذا النبش في التاريخ الميت للأحداث والشخصيات؟
الثابت فكرياً أن مسرحية (ماكبث) لشكسبير بوصفها تراجيديا حافلة بالصور المتوحشة والقاسية عن طبيعة الشر المتجذرة في النفس البشرية وتحاول الكشف عن الأسباب والدوافع التي تدفع بالإنسان إلى النزوع الشرير في الاستيلاء على السلطة والوصول إلى كرسي الحكم والاستبداد فيه، وقد لا يكون الشر واستخدام العنف وارتكاب الجريمة من طبيعة الفرد ولكن عوامل ومحفزات الطموح غير المشروع قد يدفع بالإنسان إلى  مهاوي القسوة والعنف والجريمة مع وجود احتمال وافتراض درامي كبير بأنَّ الشخصية البريئة قد تُقدِمُ على ارتكاب الجريمة والفعل المُخلّ بالشرف والفضيلة. إذ غالباً ما يَقتلُ الطمعُ والطموحُ الفاسد والرغبة بالسلطة ومغريات النفوذ والمال بذرةَ الخير والعاطفة النبيلة لذلك الإنسان الطموح.
- فأين موضع ما جاءتْ به مسرحية (أنا ماكبث) الجديدة من معطيات مسرحية (ماكبث) الكلاسيكية؟

(ميتا – مسرح)
ومن خلال استدعاء المؤلف (منير) لشخصية شكسبير نفسه في المحكمة الدرامية لغرض معرفة حقيقة ما جرى، كان يمكن للمؤلف أن يستعير تقنية الـ (ميتا- مسرح) لغرض التعرف على الدوافع والبواعث المستحدثة التي ستدفع بشخصياتهِ الجديدة لفعل فعلها والقيام بالأحداث المرتبطة بها لا سيِّما أن شكسبير نفسه أصبح قيد الاستجواب من قبل شخصياته التراجيدية المعروفة. وكان بإمكان تلك التقنية الحديثة وإدارتها للفرضية الدرامية واللعبة المسرحية أن تكون هي المتن الأوّل والركيزة الأساسية للنص المسرحي الجديد لدى (منير) للحصول على تلك المشاكسة المعاصرة والاشتباك المباشر مع الواقع العراقي الراهن والطبيعة الحياتية المتأزمة له في لحظتها الراهنة المضطربة. ومن دون ذلك فلن تتسنى لنا أيِّة قراءة جديدة أو فهم مغاير أو إسقاطات معاصرة لهذا النص، ومن بعده العرض المسرحي والرؤية الاخراجية له، مهما توفّرتْ لنا من معرفة ودراية بما يجري وراء الكواليس ومهما عرفنا من أين استقى شكسبير شخصياته وما تقوم به من فعل وما يجري من أحداث، ولا تفيدنا بشيء عملية إيجاد الخلاص لـ (ماكبث) من جريرة جرائمهِ من دونَ تماس مباشر مع الواقع وإنتاج الصدمة مع معطيات الراهن الصعب وأزماته المتعددة.ورُبَّما في هذا الجانب بالذات كان يمكن لـ (منير..) أن ينحو المنحى المعاصر لغرض تبيان مُكوّنات وتناقضات النفس البشرية ومدى انعكاس ذلك على رسمه وتقديمه لشخصياتهِ المسرحية والشريرة منها على وجه الخصوص وما تجرّهُ أفعالها وسلوكها من قسوة وعنف وما تحملهُ من مكائد ودسائس لتنفيذ مآربها الفاسدة، وقد حَفلَ المتن الدرامي للنص الجديد بالعديد من الأفكار والمعاني والإشارات والتلميحات التي يمكن من خلالها النفاذ إلى سطح الواقع الراهن وتحقيق التداخل والتفاعل مع معطياتهِ ومستجداتهِ.
لكن (أنا ماكبث) بقيَتْ حبيسة عالمها الافتراضي المغلق على نفسهِ من دونَ أيِّة إسقاطات أو نوافذ أو أبواب تفضي به إلى الخارج لا سيِّما ما نشهدُهُ من حولنا من عنف وقتل وصراع على السلطة وما تجلبهُ هذه السلطة من فساد وسرقة الأموال وسوء استخدام للنفوذ السياسي التي غالباً ما يتم توظيفها لتحقيق المكاسب والمصالح الحزبية والسياسية الضيقة.ويبقى السؤال الصعب قائماً عن جدوى كتابة هذه المسرحية والخوض في العوالم والأجواء الشكسبيرية
القارة؟
لقد توفّرتْ الفرصة للمؤلف منير راضي من خلال مسرحيتهِ الجديدة واحتكاكها بنص (ماكبث) لشكسبير وتماسها مع أفكارها وتداعياتها أن يخوض في موضوعات وأحداث معاصرة قريبة منها ومن منطلقاتها الفكرية وتساؤلاتها المهمة عن أخلاقيات السلطة وبواعث النفس الشريرة وطموحها المريض، وثمة أفكار حَمَلَتْها بعض الحوارات المهمة في المتن المسرحي كانت صالحة تماماً للبناء عليها وتقديم الرؤية المعاصرة والنزول إلى أرض الواقع الملتهبة بالأحداث والوقائع اليومية الساخنة.