تراجيديا الشرق الأوسط

قضايا عربية ودولية 2023/10/12
...

علي حسن الفواز

ما كشفت عنه واقعة "طوفان الأقصى" أضحى واقعاً ضاغطاً في السياسة والأمن، وفي وضعِ خيارات الصراع أمام توجهات جديدة، من الصعب تغييبها، فالفلسطيني تحوّل إلى قائد للمبادرة، وبات الإسرائيلي المُدجج بالغرور وذاكرة السطو والاعتداء إلى متلقٍ سلبي، مرتبك، مفجوع بما أصاب ذاكرته المحشوة بأوهام القوة الغاشمة، وفنطازيا "الدولة الأمنية" التي تراهن على البقاء، عبر السيطرة والتطبيع والعسكرة الدائمة.
من جانب آخر، فإنَّ ما كشفت عنه تلك الواقعة أسهم في خلخلة بنيوية لتوصيف المفاهيم، والأفكار، والستراتيجيات، فما كان خاضعاً للقاموس الاستشراقي النمطي أضحى أمام خرقٍ كبير، استدعى صياغة جديدة لتوصيف القوى والجماعات خارج ما تكرّس في لعبة "السرديات الكبرى" وخارج أطروحات ما عمل برناد ليفي وغيره على فرضها في توصيفات الشرق وتشكلاته وتخيلاته، ومنها ما يتعلق بتجريد التوصيف السياسي لمفهوم "الشرق الأوسط الجديد" الذي كان جزءاً من خطاب قارّ في الأدلجة العسكرية للغرب والولايات المتحدة، بدءاً من أطروحات غونداليزا رايس، وانتهاء بما قاله نتنياهو المفجوع بتداعيات طوفان الأقصى، والذي يعني توصيفاً لتراجيديا هذا الشرق المُنتهك.
الحرب على "الشرق العربي" ليست بعيدةً عن تراجيديا الحرب في توصيف مفاهيمه، وفي تغييب علاقته بتمثيل المتغيرات الجيوسياسية، فما جرى في "حرب الطوفان" اقترن بصدمات كبيرة، على مستوى صدمة التغيرّ في وظائف المفاهيم، وفي فاعليتها في قراءة ظواهر السياسة الأمن، وعلى مستوى صدمة التعاطي مع مفهوم "الاحتلال" وما كانت تفرضه دولة الاحتلال على الآخرين، الذين تمردوا على سجنهم في "غزة" ليكونوا أنداداً حقيقيين في معركة يملكون أدواتها، وفي فرض قواعد جديدة لاشتباكاتها، وهو ما يعني بدء زمن جديدـ يقوم على إخراج "اللحظة الفلسطينية" من كونها قضية حلول مؤجلة، إلى قضية متفجرة، تقاوم سياسة محو الذاكرة، وتجبر الآخرين على "التطبيع" والدخول الخائف في السياق العمومي لنظرية "الشرق الأوسط" بوصفه حاضناً جغرافياً وسياسياً وليس إنسانياً وقومياً وإيديولوجياً.
ما جرى في "طوفان الأقصى" أعاد الصحو إلى الذاكرة، وفتح الجرح النرجسي العربي، وكشف عن توحش الأدلجة الصهيونية، وعن نظرتها المتعالية للآخر، وكأنها تضع المنطقة وشعوبها عند استعادة بغيضة لأطروحة "الكولنيالية" التي تقوم على فرض القوة والهيمنة، على التاريخ والذاكرة، ووضع الجميع عند لعبة افتراضية للمصالح، بعيداً عن أي مراجعة لما جرى، ولما يجري من قتل وتغييب منهجيين، للقضية الفلسطينية، ولما تمثله من مرجعيات حقوقية وأخلاقية وتاريخية، مقابل ما تفرضه "إسرائيل" من واقع دامٍ يقوم على إلغاء الآخر، وعلى تحويل الشرق القديم إلى شرق جديد، لكنه شرقٌ يشبه المقابر.