قراءة مارسيل بروست بصوتٍ عالٍ
باتي ميلر
تقديم وتعريب: ملاك أشرف
عندما قرأت لمارسيل بروست لأول مرَّة انطبعت في ذهني أناقة أسلوبه ونصاعة عباراته وإن كانت طويلة، فضلا عن تناوله للموضوعات بشكل مكثف وتراجيدي من حيث عمق المشاعر والأفكار معا. وصفه الكاتب الفرنسيّ أندريه موروا بأنه كاتب متشعب، مفرط في الجمال وكتبه طائشة وخفيفة لا سيّما المسرّات والأيام وما يماثل صياغتها. يؤكد بروست على الواقع الإنسانيّ الأليم من خلال جرس كلماته التي ترنّ كوترِ كمانٍ باهر، يقول إننا غالبًا ما نأخذ على عاتقنا التزامات كثيرة أزاء الحياة، بحيث تأتي ساعة نكون فيها قد أخفقنا في التمكن من احترامها كلها.
يذكر في كتبه الرفيعة الصالونات الأدبيّة، كبار الأسياد، عظام الفنانين والمُفكرين الأوربيين، يستعمل تشبيهات مُلتمعة يُعبّر فيها عن عادة تحمّل مكدّرات الحياة التي لم تعد تستهويه مباهجها من جديد، ولم يعد يقوى على تذوّق مسرّاتها. يحاول استعادة المصدر الطبيعيّ للمسرّات الحقيقيّة، بعضهم فقدها بسبب مرض مثله وبعضهم بسبب العيش الفاخر وعدم الخروج منه نتيجة هذهِ العادة، يجلس في الحدائق تحتَ الأشجار للقراءة كثيرًا ثمَّ ينتقد النساء بسخريةٍ لاذعة، قائلًا إنّهن على درجة عالية من التفاهة؛ لما عليه من حفلات راقصة ورغبة في الترف، مُتناسيًا ارتباطه بالرسم والموسيقى والقصائد ذات الإيقاعات العالية ومعرفته بالمُجتمع المخمليّ المُنهمك في نيل الإعجاب والحُبّ.
أثار عدّة أسئلة بمُفرداته الزاهية التي يكسوها الغلاء، من بينها: هل علينا أن نسلّم بالطريقة نفسها على شخص مسنّ وشاب وصانع أقفال وأمير ومُمثل مسرحيّ وقامة من قامات الأكاديميّة الفرنسيّة؟ كيف يجب التعامل مع الألقاب؟ تحدّث لاحقًا عن قلّة قوة إرادة المرء والقيام بالأفعال حسب الساعة.
زوّدني الغياب بمعلوماتٍ أُخرى أكثر مرارة وأفهمني أن الإنسان يعتاد الغياب، وبأن أكثر انتقاص للذات وأكثر ألم مُذّل هو أن يشعر المرء بأنهُ لم يعد يتعذّب منه، هكذا كتبَ مارسيل بروست يومًا ما.
يصرّ على أن السعادة والاستقرار النفسيّ هما مقبرة الكتابة، فالكاتب لا يبدع من دون ألم واستفزاز نفسيّ، إن السعادة تكون للجسد بينما العقل فيحتاج إلى الأسى كي تنمو قدراته ويخلق لُغته وأفكاره الخاصّة، كان ينام في النهار ويكتب طوال الليل مُستخدمًا ركبتيه كمكتب؛ لذلك سُمّي بملاك الليل: «الكتب الحقيقيّة ليست بنت الثرثرة اليوميّة والنهارات العاديّة بل بنت الظلام والصمت». قالها مارسيل بروست. كما يصرّ على أننا نعتقد أننا نعيش في العالم، في حين أننا نعيش في أذهاننا وتصوراتنا فقط.
كتب بروست العديد من النصوص، التي اعتبرُها -أنا- أشعارًا إلّا أن بروست الشِّعريّ مُغيبٌ في الأدب وعند الحديث في الصحافة، فإنّ بروست الآخرين جميعهم يعودون أخيرًا إلى بروست الشِّعريّ. يرى بروست الشِّعريّ أن الأخلاق تجعل الجنس البشريّ مقبولًا أو مُحتملًا، بوصفِها الطريقة الوحيدة للهروب من أنانيتنا التي لا مفرَّ منها، نحنُ نقع في حُبّ أنفسنا، والسبيل الوحيد للخروج ليس من خلال الآخرين -الإصرار الأخلاقيّ المعياريّ- ولكن من خلال الفنّ، الذي يربطنا بالآخرين في نوع من شبكة نفسيّة من الأنانيّة. يكمن جزء من إنسانيّة بروست في قدرته على تحديد موقع العالم بين آذاننا حصريًا، من دون افتراض أن وجوده هُناك أمر مؤسف بالضرورة مثلما يؤمن الكاتب آدم جوبنيك اليوم. لا يمكن أبدًا دحض الظلّ الذي يلقيه بروست على الأدب الفرنسيّ مهما حاولوا. إن قراءاتنا اليوميّة بعدَ مرور مئة عام على وفاته تُظهر لنا أن البشر يستطيعون استحضار ما هو استثنائي تمامًا.
افتتح أحد القُرّاء في أيلول 2018 كتاب «غرام سوان» على شرفتنا الأماميّة وقرأ بصوتٍ عالٍ الجملة الافتتاحيّة التي تبدو بريئةً: «كنتُ أذهب إلى الفراش مُبكرًا»، ومنذُ تلك اللحظة - وكُلّ مساء تقريبًا على مدى السنوات الأربع التالية - كنتُ ضائعةً في واقعٍ موازٍ مخلخل خُلقَ قبلَ أكثر من مئة عام على الجانب الآخر من العالم. أصبحَ مارسيل بروست، ذلك الفرنسيّ الضعيف العصابيّ من أواخر القرن التاسع عشر رفيقي اليوميّ. وافق هذا الصديق القارئ على التحدي المُتمثّل في إدخال جمل بروست والانتقال عبرَ الجمل الثانوية اللانهائيّة بسهولةٍ رشيقة، هو قرأ وأنا استمعت.
كُنّا قبل كوفيد نسافر ونقرأ في كُلِّ مكان، اكتشفت في أثناء عمليات الإغلاق في المنزل لاحقًا كيف أن القراءة ترفع الكلمات من الصفحة بحيث تصنع بنيةً واسعة ومعلقة من الصوت والإيقاع، كان الأمر كما لو أن كلمات بروست لم تصل إلى امتدادها الكامل ثلاثي الأبعاد إلّا عندما تمّت قراءتها بصوتٍ عالٍ. إذ شاهدتُها تتكشف مثل قصاصات صغيرة من الورق في وعاء من الخزف، وتصبح شخصيات وقرى ومدن مفصلة مُستمرّة مثل اللحظة الشهيرة في قصّته «غرام سوان» حينما تبدأ قطعة المادلين المُغطاة في كوب الشاي الخاصّ بهِ في القيام بعملها المُتجسّد في الكشف عن مجموعة ضخمة من المنازل، الأفراد والمُجتمعات.
أشعرُ في كُلِّ مرَّة أقرأ بلحظة ظهور الإبداع إلى الوجود، كيف يمكن أن يكون لدى البشر المعيبين القدرة على الإبداع؟ لقد جاءني هذا الشعور بالرهبة مرارًا وتكرارًا خلال السنوات الأربع التي أصغيت فيها إلى كلماته تتشكّل في الهواء من حولي، ذلكَ الإحساس الصامت، ولكن الغني للغاية الذي يحيط بنا حينما يكون هُناك شيءٌ ما على وشك الظهور إلى الوجود. ولد بروست عام 1871 لأسرة فرنسيّة من الطبقة المتوسطة العليا، يُنظر إليه على أنّهُ مريض عندما كان طفلًا فيخضع للمُراقبة عن كثب، اختلط في شبابه مع الأرستقراطيين والفنانين في المُجتمع الباريسيّ الراقي، وحافظ على عينهِ المسلية اللاذعة في كثير من الأحيان على من حوله ثمَّ كتب الكتب السبعة التي يتألّف منها: كتاب «البحث عن الزمن المفقود»، وتوفي صغيرًا - كانَ عمره 51 عامًا فقط - قبل مئة عام في مثل هذا الشهر بعد أن أمضيت السنوات الأربع الأخيرة تائهةً في عالمهِ الموهون، أحاول أن أتذكرَ كيف أصبحت حقائقنا مُتشابكة للغاية لدرجة أنني لا أعرف كيف ستكون الحياة من دونه الآن.
على الرغم من أن مارسيل يفصل بيننا قرن من الزمن والجنسية والطبقة والجنس والإحساس، وعلى الرغم من أنني أجده بانتظام مهووسًا وعصبيًا بشكلٍ مُفرط إلا أنني أصبحت أعتبرهُ صديقًا ومع ذلكَ لا أحد أستطيع أن أفتح قلبي لهُ بالكامل، لقد راقبني بحدّة شديدة لذا كنتُ مُنبهرةً برغبته التي لا تنتهي وقدرته التي لا مثيلَ لها على إعادة خلق كُلّ لحظة وتقلّب في الوجود، لكنني لن أثقَ بهِ بمُجرّد مُغادرة الغرفة.
لم تكن مُتعة القراءة مُرتبطة بالسرد، الذي يشكّل في النهاية نمطًا مُعقّدًا - بغضّ النظر عن كونه في بعض الأحيان بطيئًا على نحوٍ يذوب العقل- ولا بالشخصيات الرائعة والمُثيرة للاشمئزاز غالبًا، بل كانت لحظات مُفاجئة لما لا أستطيع أن أسميه إلّا «ساتوري»، الكلمة اليابانيّة التي تعني هزّة مُباغتة تخرج من السطح الدنيويّ إلى الوضوح الساطع للوعي بالوجود، بمعنى آخر هي حالة التنوير المُفاجئ.
إنّ ما هو أكثر من ملاحظاته الذكية حول المُجتمع أو الشخصيّة أو السياسة - أو الفساتين- هو تفكيره في طبيعة الذاكرة والوعي نفسه. سألتُ ذات مرَّةٍ ذلك القارئ عن سبب قراءته، فأجاب: «من أجل ضجيج الوعي البشريّ، حتّى أعرف أنني لستُ وحدي»، هذا هو التألّق الحقيقيّ لبروست، إنه واحد من الكُتَّاب القلائل الذين يستطيعون خلق هذا الضجيج الذي لا نهايةَ لهُ على الصفحة. ينشر شبكة لا نهائية من الكلمات ويصوّر فيها الغموض المُزعج غير المحدود لكونك إنسانًا؛ ممّا يغذي قلب القارئ وعقله وروحه، إنها جرعة غنية وساحقة تتيح لنا الوصول إلى لغز غير معروف لكون بشريّ آخر. لنكون صادقين أن جمل بروست وحساسيته كثيرًا ما تكون صعبةً؛ جراء تطلبها الانتباه إلى الفحص اللامتناهي للحظة وتاريخها وبنيتها النفسيّة.
أنا والقارئ المقصود خرجنا بعدَ مليون وربع كلمة نرمش بعينينا مشوشين من تلكَ العمارة الشاسعة، لا يعني هذا أننا غائبون لكن العالم تغيّر وينزلق شيئًا فشيئًا إلى أسفل التلّ، إذ تضربنا الأوبئة، تغيرات المناخ وتهديدات الحرب من جميع الجهات. لم تنقذنا قراءتنا من أي شيءٍ سوى أنني أشعر أقوى بسبب إقامتي الطويلة مع بروست، لا يقتصر الأمر على أنه أظهر لي دائمًا التعقيد العاطفيّ باعتباري إنسانةً، بل حقيقة أن البحث عن الزمن الضائع موجود على الإطلاق، وحقيقة أن البشر يمكنهم صنع شيء غير عاديّ تمامًا، ويؤكد أننا مخلوقات عبثيّة قادرة على الإبداع وليسَ فقط التدمير.