عادل الصويري
كثيرٌ من شعراء اليوم، واقعون في فخ ما يُعرف بـ (النص المنقود)، معتقدين أنَّ التجربة التي تكثر حولها الدراسات، والتنظيرات التي تتكدّس فيها المصطلحات المستوردة؛ هي التجربة الأمثل والأكمل في مضمار الشعر الطويل. سبب ذلك برأيي؛ يعود إلى التباعد الشاسع في المسافة بين تنظيراتِنا لتجديد الشعر وتحديثه، وبين ما أبدعناه فعليًا في الحقل التحديثي، الذي أصبح مقتصرًا على رومانسيّة غرائبيّة أو عاطفيّة ساذجة، مُسيَّجة باللغة المنشطرة إلى ذائقتين: بلاغيّة، ويوميّة.أكثر الشعر الذي نقرأه اليوم، إنما هو حلبة مصارعة، بين اللغة والحياة - الشاعر يأخذ دور الحكم غير المحايد - وكأنَّهما ضِدّانِ متنافران، فتزداد مساحة الابتعاد بينهما.
فقصيدة الحياة صارت ساذجة وبائسة؛ بذريعة البساطة التي يُغني لها شعراء بنصف موهبة، غير قادرين على فهم اللغة قبل إغوائها، مكتفين برصد مظاهر الحياة اليومية بشكل عشوائي، من دون أن تظهر في النص بصمة الشاعر أو رؤيته. أما قصيدة اللغة التي يثمل النقد لحظة الاقترابِ من مفاتنها المُتَوَهَّمة؛ فقد تحوّلت إلى وسواس قهري، يعبث برأس الشعراء المهووسين باللامطروق التعبيري، أو الإيقاعي، أو استعراض الكتابة على ما يُعرف بـ (القوافي الصعبة)، وكأنَّ نجاح الشاعر مقتصر على رصف القوافي غير المألوفة حتى وإن كانت ناشزة. وبذلك يكون اللامطروق لا مطروقًا فارغًا من أي قيمةٍ ومعنى، معتقدين أنّهم بلغوا الرؤيةَ، بينما هم بلغوا الخدر الهذياني، واستقروا
عليه.
لقد تحول نقد الشعر اليوم إلى ما يشبه النظريات الرياضيّة المعقدة، ويبدو أنَّ بعض الشعراء بدأوا يتعايشون مع هذه الحقيقة المؤسفة، معلنين في قصائدهم طلاقًا خلعيًا مع أي فهم للواقع الذي عجزوا عن نفخ روح الشعريّة في طينه الساكن بلا أي تحريك يجعل النشاط يدبُّ فيه. إنَّه النقد الذي يُنعشُ الفراغ، عبر تمزيق نسيج القصيدة. لذلك قد يُغرى الشاعر فتوسوسُ له نفسه، وتدفعه باتجاه التعايش مع هذا التمزيق، طالما أنّه يأتي له بدراسات نقديّة، ترفع من شأن تجربته، ومن ثمَّ ليس في حاجة إلى كتابة الجملة الشعريَّة المتسقة مع سياقها، ولن يكون مضطرًا للتسليم بوحدة البيت، فعبارات شعرية غير مترابطة، ولا علاقات بين مفرداتها، ثم اختيار الهاء الضميريَّة كقافية للقصيدة في حال كانت عموديَّة، كفيلة بجلب النقاد إلى ساحة القصيدة المنسجمة مع هاءات ضميريَّة، ليس لها ضميرٌ شعريٌّ في الحقيقة.وهؤلاء في قصائدهم يتأرجحون بين غنائيةٍ يحاولون الفرار من عجز بث روح التجديد فيها، وبين تقنيةٍ أوهمتهم بضرورة التعالي على البوح، فنراهم ابتعدوا كثيرًا عن مدائن الغناء الشعري، وفي الوقت نفسه لم يستطيعوا الدخول إلى المدائن التي توهموها. هذا التأرجح في الواقع، هو ما جعل بعض المهتمين المحايدين بالشعر، للتساؤلِ عن جدواه، في ظل هذا التشويش ذي الصوت العالي والصاخب، والذي اجتاح الشعر والنقد معًا، خصوصًا مع وجود مساحة مجانية إلكترونية تتيح لهذا العبث التوهج، لدرجة اعتباره رأيًا عامًا، جعل كثيرًا من الشعراء بعيدين عن الكشف الحقيقي لضرورة الشعر، وبعيدين جدًا عن شراسة المواجهة مع ذواتهم التي تنتج القصائد في درجات حرارة تصل إلى دون الصفر المئوي بمراتب كبيرة. وطبعًا يقابل هذه القصائد نقدٌ بدرجات حرارة مماثلة، أو ربما تفوقها
أيضًا